الأربعاء، 1 أغسطس 2012

قوانين التفكير والبديهيات

قوانين التفكير في ربط الدماغ المعلومات السابقة بالواقع


إثر نقاش دار مع بعض الأخوة حول موضوع البدهيات وعلاقتها بالمعلومات السابقة الضرورية لعملية إنتاج العقل للأفكار، فقد ظهر لنا أنه من الضروري التعمق في عملية التفكير ذاتها وبالأخص ربط الدماغ المعلومات السابقة بالواقع التي هي جوهر عملية التفكير. ثم الانتقال في البحث بعد ذلك في مسألة البدهيات، ومحاولة الإجابة على السؤال: هل هي معلومات سابقة علمها الله لسيدنا آدم عليه السلام أم هي مفطورة في الدماغ؟

ومن خلال الرجوع إلى مرجعنا الرئيس وهو كتاب التفكير للشيخ تقي الدين رحمه الله ومحاولة بلورة ما يقوله بالنسبة [لخاصية الربط] فقد وجدنا أنه يقول أن العملية العقلية إنّما هي الحكم على الأشياء ما هي والحكم على الأشياء ما هي لا يتم إلاّ بعملية ربط. وربطٌ بمعلومات سابقة. ومن هنا كان لا بد من وجود معلومات سابقة لأية عملية ربط، فالمعلومات السابقة شرط أساسي ورئيسي للعملية العقلية، وخاصية الربط إنّما تربط المعلومات بالواقع. ودماغ الإنسان توجد فيه خاصية ربط المعلومات.

لكن الكيفية التي يربط الدماغ فيها بين المعلومات والواقع ليحكم على ماهيته لم يُتطرق إليها في كتاب التفكير. فكان لا بد من محاولة فهمها وإدراكها إدراكا واعيا، ولما كنا ندرك أن عملية التفكير هي علاقة بين سبب أي الطاقة الفكرية الفاعلة في الواقع المحسوس المنقول إلى الدماغ والربط بالمعلومات السابقة المتعلقة بهذا الواقع، وبين المسبَّب هو الحكم الصادر من العقل على الواقع (الفكر الناتج). فإن عملية الربط التي تحصل في الدماغ هي علاقة بين سبب ومسبَّب أي علاقة سببية.

وندرك كذلك أن العلاقة السببية بين السبب والمسبب تتحرك وفق قوانين معينة تؤدي إلى حصول النتيجة وهذه قاعدة عامة شاملة فيما يتعلق بالعلاقة السببية، فلإنتاج المسبب وهو هنا الفكر لا بد من قوانين حاكمة لعملية التفكير، فما هي قوانين التفكير تلك التي تحكم عملية الربط في الدماغ الإنساني؟

وإذا حددنا قوانين التفكير استطعنا الانطلاق للحكم على البدهيات. فهل البدهيات هي تلك القوانين الضرورية اللازمة لعملية الربط أم أنها تلك المعلومات السابقة الأساسية والأولية اللازمة في عميلة الربط؟

قوانين التفكير في كيفية ربط الدماغ المعلومات السابقة بالواقع:

وقوانين التفكير التي تم البحث عنها قد تكون كثيرة ولكن هدانا الله لبعضها مما يشكل الأساس الذي يمكننا البناء عليه لاحقا وهي كالتالي:

1. الهوِّية: يسمي الدماغ الأشياء بتحديد أجزاء معينة وربطها معا وإعطائها وصفا كيانيا أي هوية خاصة.
2. يعطي الدماغ لكل كيان معنى يتعلق به كالإنسان والقمر والفيل ويحدد صفات هذا الكيان مثل الشكل واللون والثقل والرطوبة والحرارة ويحدد لوازمه وارتباطاته بما حوله (شروط).
3. يخزن الدماغ صورة الكيان ومعناه وصفاته ولوازمه في الذاكرة.
4. يميز الدماغ بين الكيانات المختلفة من خلال تجريد معاني مشتركة ومختلفة بينها ويحاول تكوين نماذج الفكرية مجردة يختزنها في الذاكرة.
5. الأصل هو حالة الاستقرار لجميع أشياء الكون لوجود صفة الاحتياج والعجز والقصور الذاتي فيها، فيبقى كل كيان على ما هو عليه مطابقة لأصله السابق في الذهن وعدم تغيره.
6. يقوم الدماغ من خلال المطابقة أي مقارنة التشابه بين الصورة الذهنية السابقة والواقع المحسوس للكيان بالحكم على هوية هذا الكيان، فإذا تطابقا حكم الدماغ بالشبه وأعطاه الهوية الكيانية السابقة التي في الذاكرة ويميز الدماغ التشابه من خلال مفهوم التساوي.
7. يستخدم الدماغ التمايز بين الاستقرار والتغير في حالة الكيان عبر الزمان والمكان، ومعنى الاستقرار أن الأشياء تميل إلى الكسل والهدوء والسكون والثبات أما التغير فهو التحول في حالة الكيان واكتساب النشاط والطاقة والفعالية.
8. الوضع الطبيعي في الأشياء أنها تميل إلى الاستقرار وتقاوم التغير، فإذا حكم الدماغ بحصول التغير في حالة الكيان حكم بحصول التغيير جبرا عن هذا الكيان بتأثير خارجي (سبب) أكسبه طاقة منشطة فعالة أدت إلى الحركة عبر الزمان والمكان أي حصول التغير (السببية).
9. التغير يعني انتقال الكيان من حالة إلى أخرى ويميز الدماغ ذلك من خلال المقارنة بين الأضداد الزوجية أي حالة الشيء وضدها كأكبر وأصغر في الأبعاد والأحجام والأجسام وأكثر وأقل في الأعداد وأقرب وأبعد في المسافات وأثقل وأخف في الأوزان وأحر وأبرد وأجف وأرطب وأخشن وأملس وأبيض وأسود والساكن والمتحرك والنور والظلام وغير ذلك من مفاهيم الأضداد.
10. يدرك الدماغ مفهوم الزمن من خلال إدراكه لسير عمليات التغيير الذي تحصل لحالة الأشياء وحركتها فيستدعي الدماغ من الذاكرة الصور الذهنية لكيان معين أو مجموعة من الكيانات بشكل سلسلة متوالية ومرتبة لتمييز الأوضاع المختلفة للكيان فيعطي لكل وضع صفة التغير بالمقارنة مع ما قبله وما بعده، وهذا هو معنى الوقت، وذلك مثل صور تلفزيونية متتابعة، فيميز الدماغ مفهوم الوقت من خلال معاني التسلسل والترتيب والتوالي والتساوي. فرؤية القمر وتغير منازله والشمس وحركتها من الشروق إلى الغروب بشكل متكرر ومتساوي ومتسلسل تعطي مرجعية لإدراك مفهوم الوقت والزمن. فالتغير الذي يحصل للأشياء وارتباط التغير للشيء بغيره وكل عمليات التغيير التي تحصل عبر نفس المكان تعني التزامن أي اللحظة الزمنية ومتوالية اللحظات الزمانية تعني الوقت.
11. لا يحب الدماغ الجهل والغموض بل يميل دائما إلى الربط بين الكيان الذي يحس به مع نمط معروف له في الذاكرة تهربا من الغموض والجهل. لذلك يحاول الدماغ القيام بعملية التعميم لإنتاج نماذج معينة للمعاني التجريدية المشتركة بين الكيانات المختلفة.
12. يستخدم الدماغ عملية البناء والحذف للحكم على التشابه والاختلاف، فيقوم من خلال عملية البناء بملء الفراغات بين الأجزاء غير الموجودة أو غير الواضحة له فيكملها ويعطيها روابط معينة بناء على الصورة الذهنية السابقة التي يستدعيها من الذاكرة، ويقوم من خلال عملية الحذف والترشيح بإهمال بعض الأجزاء الموجودة ويلغيها للحصول على مطابقة مع الصورة الذهنية السابقة التي يستدعيها من الذاكرة
13. يستخدم الدماغ كذلك عملية التحريف بالانتقاء والإهمال للحكم على التشابه والاختلاف، فيقوم بانتقاء بعض الجوانب والتركيز عليها وإعطائها وزنا أكبر مما هي عليه في الواقع الخارجي الذي يحس به، ويقوم كذلك من خلال عملية التحريف بتقليص وتقليل وزن بعض الجوانب الأخرى وإهمالها.
14. إذا أنتجت المقارنة وجود صورة مقاربة لما لديه مع وجود اختلاف قليل بين الكيان الخارجي المحسوس عن الصورة الذهنية السابقة له في الذاكرة حكم بالتشابه وأعطى هذا الكيان المحسوس عين الهوية السابقة في الذاكرة.
15. إذا أنتجت المقارنة وجود صورة مغايرة بوجود اختلاف وتمايز بين الكيان الخارجي المحسوس عن الصورة الذهنية السابقة له في الذاكرة بحيث يخرجه عن حدود الهوية يقوم الدماغ بمحاولة إعطاء الكيان الجديد اسما وهوية جديدة مغايرة للأول
16. يربط الدماغ هوية الكيان الجديد بالنماذج الفكرية المجردة المختزنة في الذاكرة لينتج معنى يعرف به الكيان الجديد يعطيه هوية جديدة، ويحاول ربط معنى الكيان الجديد بصفات معينة ولوازم (شروط) متعلقة بهذا الكيان.


البدهيات:

البدهيات هي حقائق ضرورية لا تحتاج إلى برهان، أي أنها تفرض نفسها على الذهن بحيث لا يحتاج إلى برهان لإثباتها. ويجمع العقلاء على صحتها واعتمادها كأصول ضرورية لازمة، وهي تعتبر أسسا وقواعد أولية ومقاييس تبنى عليها باقي الأفكار، وبراهين لإثبات صدق غيرها من الأفكار.

ونحاول هنا أن نذكر أهم الأفكار البديهية وكيفية استنادها المباشر إلى قوانين التفكير المذكورة أعلاه، وإمكانية استنتاج بديهيات أخرى من خلال ربط قانونين أو أكثر من قوانين التفكير ببعضها. وأهم البدهيات المتعارف عليها:

1. التناقض: هو كون الشيء موجود في حالتي الضد في نفس الزمن وهذا يخالف مفهوم الهوية عن الشيء ومفهوم سير التغير عبر الزمن لذلك يرفضه العقل.
2. بطلان الرجحان بدون مرجح: يدرك الدماغ معنى ميل الأشياء إلى الاستقرار ومعنى التغير الذي يحصل في الأشياء جبرا عنها لعجزها الأصلي، ويدرك أن التغير يحدث بتأثير الغير وهذا الغير هو العامل المغير ويستنتج من الربط أن غياب المرجح (العامل المغير) يعني غياب التغيير (الرجحان). فيرفض العقل الرجحان بدون مرجح.
3. السببية: يدرك الدماغ معنى ميل الأشياء إلى الاستقرار ومعنى التغير الذي يحصل في الأشياء جبرا عن حالة عجزها الأصلي ويدرك أن التغير يحدث بتأثير الغير وهذا الغير هو العامل المغير أي السبب. وحالة الشيء بعد حدوث التغيير هي المسبَّب. والربط بين الشيء وحالته قبل التغير وبعده والعامل المغير هي علاقة السببية. فيستنتج الدماغ أن السبب ينتج المسبب حتما وأن المسبب لا ينتج إلا عن سببه.
4. الاحتياج: يدرك الدماغ معنى ميل الأشياء إلى الاستقرار ومعنى التغير الذي يحصل في الأشياء جبرا عن حالة عجزها الأصلي ويدرك أن التغير يحدث بتأثير الغير وهذا الغير هو العامل المغير ويستنتج أن الشيء يحتاج إلى غيره ليتغير فيثبت لجميع الأشياء وصف الاحتياج.
5. الجزء أصغر من الكل: يدرك الدماغ هوية الكيان من خلال الجمع بين أجزائه ويدرك صفات الأضداد أكبر وأصغر وإذا قارن بين الكيان وأجزائه حكم بأن الجزء أصغر من الكل ويدرك أنه من المحال أن يكون الجزء أكبر من الكل.
6. بطلان الدور: أي أن يتوقف وجود الشيء أو تكييفه على شيء آخر إلا أن هذا الشيء الآخر متوقف على الشيء الأول (الحلقة المفرغة). يدرك الدماغ معنى هوية الشيء وارتباطه بشروط معينة واحتياجه إلى الغير، ومفهوم التغير في الشيء، ويدرك معنى الترتيب والتوالي في سير حالة التغير في الشيء عبر الزمن وأن وجود العامل المغير يسبب حدوث التغيير في حالة الشيء ووجوب سبق السبب للمسبَّب من ناحية زمانية ويدرك معنى الأضداد باستحالة أن يكون الشيء سببا ومسببا في نفس الوقت لذلك يرفض أن يكون السبب المغير مسببا عن الشيء الذي يحتاج إلى التغيير وهذا يبطل الدور.
7. بطلان التسلسل: يدرك الدماغ مفهوم التسلسل من خلال مفهوم التغير في الشيء ومعنى الترتيب والتوالي في سير حالة التغير في الشيء عبر الزمن ومعنى العلاقة السببية بين الكيان والعامل المغير والحاجة إلى وجود السبب قبل المسبب، وهذا يستلزم أن تكون الحالة الأصلية للأشياء هي التغير وهذا يناقض المعنى المستقر في الدماغ أن الحالة الأصلية للأشياء هي الاستقرار، فيحكم ببطلان التسلسل لأن الأصل خلافه.

وهناك بديهيات أخرى يمكن استنباطها من قوانين التفكير كالقول بأن مجموع المحدوات محدود وأن الذوات تقسم إلى ممكن ومحال وواجب وغير ذلك.

أرجو من الإخوة الكرام التمعن فيما ذكرته ونقده والتعقيب والإضافة عليه لما له من الأهمية في فهم ماهية العقل والتفكير وعملية الربط ووضع الأفكار في نصابها تجنبا من الوقوع في زلل الفكر. بانتظار آرائكم.

وسبحان الله الذي علم الإنسان ما لم يعلم

والسلام عليكم

ملاحظة : تم نشر هذا الموضوع في منتدى العقاب بتاريخ 11/12/2005
http://www.alokab.com/forums/index.php?showtopic=7087

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

شكرا لك على التعليق