الأحد، 12 أغسطس 2012

العلاقة بين التفكير واللغة

العلاقة بين التفكير واللغة


استكمالا لموضوع "قوانين التفكير" ولأجل تطوير الموضوع وللإجابة على السؤال الرئيس:
هل البديهيات هي معلومات سابقة علمها الله لسيدنا آدم أم هي معلومات أولية مفطورة في الدماغ البشري ؟

فلا بد من التأكيد هنا مرة أخرى قوانين التفكير هي تلك الضوابط التي تتحكم في عملية إنتاج الفكر أي تسيطر على ”خاصية الربط" ذلك أن عملية التفكير بمجملها تجري وفق علاقة السببية بين طرفين يتم ربطهما معا هما:

1. السبب وهو (الواقع المحسوس المنقول إلى الدماغ)
2. المسبَّب وهو (الفكر المنتج أو الحكم الصادر)

وهذه العلاقة لإنتاج الفكر لا بد أن تجري وفق قوانين وسنن معينة تتحكم وتسيطر على عملية الإنتاج أي للوصول إلى الحكم على الواقع وقد تم تسمية هذه القوانين بــ "قوانين التفكير".

وبعد التفكير والتدبر فقد غلب على الظن أن هذه القوانين أي "قوانين التفكير" يجب أن تكون ذاتية في الدماغ وليست مكتسبة بالتعلم لأنها ليست معلومات سابقة ولا هي جزء من الواقع الخارجي المنقول إلى الدماغ، لذلك فهي مفطورة في الدماغ ويكون الدماغ من خلال استخدامها صالحا للربط بين الواقع المحسوس والمعلومات السابقة وقادرا على القيام بالعملية الفكرية أي إنتاج الأفكار.

لكن الدماغ لا يستطيع أن ينتج الأفكار سواء البديهية أو ما يبنى عليها إلا بأمرين هما المعلومات السابقة والواقع المحسوس.
أما المعلومات السابقة فهي لازمة من خلال ملاحظة القانونين رقم 1 و2 من قوانين التفكير وهما:

1. الهوِّية: يسمي الدماغ الأشياء بتحديد أجزاء معينة وربطها معا وإعطائها وصفا كيانيا أي هوية خاصة.
2. يعطي الدماغ لكل كيان معنى يتعلق به كالإنسان والقمر والفيل ويحدد صفات هذا الكيان مثل الشكل واللون والثقل والرطوبة والحرارة ويحدد لوازمه وارتباطاته بما حوله (شروط).

ووفق القانون الأول لا بد للكيان الذي يحس به الدماغ من "اسم"، ولا بد وفق القانون الثاني للاسم من معنى يرتبط به أي "مسمى".
وهذا الربط بين الاسم والمسمى لا بد له من واسطة أو أداة تستخدم وهي "اللـــغـــة".

وواقع اللغة أنها ألفاظ وضعت بإزاء معاني معينة، أي لفظ (اسم) ارتبط واقترن في الذهن بمعنى معين "مسمى". فأي معنى لشيء محدد يتصوره الذهن لا بد أن يخزنه في الدماغ في ملف معين تحت اسم يعرفه ويستطيع تذكره واسترجاعه لاحقا مع كل ما يتعلق به من صفات وخاصيات وشروط ولوازم تتعلق بما حوله كلها يحتويها الملف ولها هوية خاصة يعرفها الدماغ من خلال الاسم، فالاسم الملف هو الهوية للشيء.

واللغة لا تتعلق بالفرد وحده بل تتعلق بالمجموعة البشرية أي نظام المجتمع الذي يعيش فيه الإنسان، ذلك أن الإنسان مدني بالطبع أي لا بد له أن يحيى ويعيش مع غيره من بني الإنسان ليستطيع قضاء حوائجه وتحقيق أهدافه وهذه لا تتم إلا بالتعاون مع غيره. والحياة والتعاون مع الناس لا بد لها من وسيلة يعبر فيها كل واحد من الأفراد عن ما يجيش في عقله من معاني وما يريد أن يحقق من رغبات ليستمر عيشه ويتم تحسينه، وهذه الوسيلة هي (اللــغـــة). لذلك فإن تسمية الإنسان بأنه حيوان ناطق ليست بعيدة عن الصواب لأن عملية التفكير لدى الإنسان والتواصل مع غيره يلزمها النطق والكلام أي اللغة.

والخلاصة أن اللغة شرط في عملية التفكير وهي أداة وواسطة يتم بها ربط معنى معين في الدماغ بهوية ملائمة من خلال لفظ محدد يتعلق بهذا المعنى هو "الاسم"، فاللغة هي وعاء الفكر.وهي ليست جزءا منه.

هل اللغات توقيفية أم اصطلاحية ؟

اختلف المتكلمون حول مسألة هل اللغات توقيفية أو اصطلاحية وانقسموا فريقين، فمنهم من اعتبرها توقيفية لأن الله علم آدم الأسماء كلها أي علمه اللغات، ومنهم من اعتبرها اصطلاحية كما رأوها من واقع اللغات في وقتهم وفسر هذا الفريق تعليم الله لآدم بأن علمه مسميات الأشياء وليس اللغة. وكلا الفريقين مصيب من جهة ومخطئ من جهة أخرى ومكمن الخطأ آت من اعتبارهما اللغات جامدة لا تتطور مع الزمن.

نستطيع أم نفهم من آيات سورة البقرة حول استخلاف آدم عليه السلام، أن الله تعالى علم آدم عليه السلام أسماء الأشياء مقرونة ومربوطة بمسمياتها أي علمه لغة معينة وأعطاه معلومات سابقة لازمة له ليفكر، أي علمه لغة أولى هي أم جميع اللغات البشرية، ثم افترق الناس في الأرض إلى شعوب وقبائل. واختلفت الألسن التي يتكلمون بها بسبب أن طبيعة اللغة البشرية أنها متغيرة ومتطورة كما هو حاصل بالنسبة للغة العربية وكيف تطورت منها اللغات العامية التي نراها الآن، وكذلك كيف تفرعت اللغة اللاتينية إلى اللغات الإيطالية والأسبانية والبرتغالية وهكذا، وهذا دليل على تطور اللغات البشرية عبر الزمن. ولهذا فإن الصحيح الذي يغلب على الظن أن اللغات ليست توقيفية من الله بل هي اصطلاحية يصطلح كل قوم على لغة مشتركة يتخاطبون بواسطتها فيما بينهم وجميع هذه اللغات متطورة عن لغة آدم الأولى التي علمه الله إياها.

وهناك سؤال يسأل: وهو هل يحتاج تعلم اللغة إلى معلومات سابقة؟

حتى نجيب على هذا السؤال فإننا يجب أن نفرق هنا بين تعلم الطفل لغة أولى، وبين تعلم الكبير لغة ثانية.

فالمشاهد أن الإنسان البالغ العاقل عندما يبدأ بتعلم أي لغة ثانية فإنه يستند قطعا إلى المعلومات السابقة التي لديه من لغته الأم أي يتعلمها بواسطة الفكر والعقل، ويستند في تعلم اللغة الجديدة إلى قواعد وأسس لغته الأولى أو ما يسمى باللغة الأم التي شكلت تفكيره وبرمجته، والتي هي أساس ووعاء فكره وتصوره للمعاني. فإذا ذكرت أمامه كلمة باللغة الجديدة فإنه يفهمها حين تترجم له بأن تقرن بكلمة يعرف معناها في لغته الأم، ثم يقوم بربط المعنى من لغته بالكلمة الجديدة وفق ما يتصوره من معنى محدد لها في لغته الأم إلى اللغة الجديدة. وقد يكون المعنى قريبا ولكنه لا ينطبق تمام الانطباق، لذلك فإننا نلاحظ أن غالب من يتعلم أية لغة بعد سن البلوغ فإنه لا يمكن أن يتقنها بشكل تام كأهلها مهما بذل من عناية، لأن اللغة الأولى هي التي شكلت تفكير الإنسان من الأساس ابتداء وبها يتصور المعاني الذهنية. وبسبب وجود الاختلاف بين اللغات في التعبير عن المعاني الذهنية، فإن الترجمة مهما سمت لا تستطيع التعبير بدقة عن نفس المعاني في اللغات المختلفة، ولذلك كانت ترجمة القرآن لفظا ومعنى عملا مستحيلا.

أما كيف يتعلم الطفل الصغير اللغة الأولى وهل يحتاج إلى معلومات سابقة ليتعلم هذه اللغة؟
أن الطفل يولد ابتداء خاليا من أي علم أو أية معلومات سابقة لذلك لا يستطيع التفكير وإن امتلك الدماغ الذي فيه صلاحية بدائية للربط لأن الدماغ يكون حينئذ غير مكتمل، وحتى يستطيع أن يكون قادرا على التفكير فهو بحاجة إلى تلقي وتعلم المعلومات السابقة من غيره بواسطة اللغة، فاللغة شرط في التلقي والتعلم حتى يستطيع أن يفكر، وهذا الطفل لو كبرت سنه وبلغ عشرين سنة، ولم يأخذ أية معلومات، فإنه يبقى كأول يوم، يحس بالأشياء فقط ولا يدركها مهما كبر دماغه ولكن إذا أعطيناه اسم كل منها تجاه واقعه، أو تجاه صورة الواقع، وربطناه بها فإنه يصبح قادرا على التفكير، فكيف يتعلم الطفل اللغة إذن؟

إن دماغ الإنسان فيه خاصية ربط المعلومات واسترجاع الإحساس. فيمكن للإنسان في ما يتعلق بالغرائز بتكرار الإحساس أن يسترجع الإحساس، ويمكنه بخاصية الربط أن يُكوّن من مجموع ما يحسه وما يسترجعه من إحساسات، معلومات، وأن يسترجع هذه الإحساسات بمعلوماتها فيما يتعلق بالغرائز والحاجات العضوية فقط وهو يشبه في هذا العمر الحيوان، لكن دماغ الحيوان لا توجد فيه خاصية ربط المعلومات، وإنّما عنده تذكّر الإحساس والتمييز الغريزي. فأنت إذا ضربتَ الجرس وأطمعت الكلب عند ضرب الجرس، فإنه إذا تكرر ذلك يفهم الكلب إذا قُرع الجرس أن الأكل آتٍ ولذلك يسيل لعابه، أمّا ما لا يتعلق بالغريزة فلا يمكن أن يقوم به الحيوان طبيعياً إذا أحسه، ولكن إذا كُرر هذا الإحساس واسترجعه فإنه يمكن أن يقوم به تقليداً ومحاكاة وليس قياماً طبيعياً.

والمشترك بين دماغ الحيوان والإنسان هو وجود بعض "قوانين عمليات الدماغ" التي يستطيع باستخدامها أن يقوم ببعض العمليات الذهنية بدون الحاجة إلى المعلومات السابقة خصوصا فيما يتعلق بإشباع الغرائز والحاجات العضوية، ويستطيع الحيوان بهذه القوانين الربط بين إحساسه بحصول حدث معين كقرع الجرس بالتزامن أو التتابع مع حدث آخر كحضور الأكل إذا تكرر، أن يقرن الدماغ إحساسه بالحدثين ويخزن ذلك في ذاكرته ويستطيع أن يسترجع الدماغ إحساسه السابق بالحدث الثاني الأكل إذا أحس بالحدث الأول قرع الجرس، وهذا هو الاسترجاع. أما دماغ الطفل فهو أقدر من دماغ الحيوان على لأن فيه بجانب القدرة على استرجاع الإحساس بشيء إذا اقترن بشيء آخر القدرة على الربط.

والفرق بين التفكير والتمييز الغريزي يكون في أن التمييز الغريزي عند الحيوان والإنسان يقتصر استخدام الدماغ فيه على بعض "قوانين عمليات الدماغ" والتي هي مفطورة في هذا الدماغ ومنها القدرة على تخزين الإحساس في الدماغ واسترجاعه، في حين أن التفكير في الدماغ الصالح للربط عند الإنسان يستخدم بجانب قوانين الإدراك الشعوري جميع "قوانين التفكير" وخصوصا قدرته على تكوين النماذج الفكرية أي المعلومات السابقة وتذكرها والربط بينها وبين الواقع المحسوس والحكم على الواقع من خلال تحليله إلى أجزائه والتي لها معلومات سابقة في الدماغ ثم ربطها وتركيب أجزائها من جديد وتكوين نموذج ذي معنى في الذاكرة.

لذلك يعتبر الأساس في تعلم اللغة الأولى عند الأطفال هو الربط الاسترجاعي بين اقتران إحساسه بشيء ما وتكرر ذلك مع إحساسه بالشيء الآخر. فيستطيع دماغ الطفل تعلم اللغة من خلال الربط بين صوت الأم والإحساس بحصول حدث معين. فبسماع أصوات الناس الذين حوله واقتران الصوت أي الكلمة أو الجملة المعينة مع شيء أو حادثة يحس بها بالتزامن مع الكلام، وبتكرار سماعه نفس الكلام المقترن مع نفس الإحساس يربط في دماغه الشيء أو الحدث مع الكلام. وهكذا يبدأ الربط اللغوي بين الصوت والحدث لدى الطفل ويصبح قادرا بنفسه مع الزمن على استرجاع الأصوات أو تذكر الكلام والأسماء التي تقال بمناسبة الحدث الذي أحس به أي المسميات.

وبمشاهدة وتتبع تعلم الأطفال للغات نجد أن هناك تدرجا في تعلم اللغة تبدأ عندما يصل عمره إلى أكثر من سنة بقليل حيث يبدأ بلفظ بعض الكلمات ثم في عمر سنتين فأكثر يصبح قادرا على تركيب بعض الجمل البسيطة ومن ثم تتطور قدرته مع كبر سنه. فاللغات في الأساس سماعية ويتعلم الطفل اللغة من السماع ليس ككلمات منفردة بل يتعلم الجمل المفيدة كاملة. وتعلم الأطفال للغة ليست قضية ذكاء لأن المتخلفين عقليا يتعلمون اللغة مع فقدانهم لقدر كبير من الذكاء. ويلاحظ أن تعلم الطفل لغة أبويه ومن حوله يحصل بإتقان تام بعكس الكبير الذي يتعلم لغة ثانية.

لذلك فتعلم اللغة الأولى عند الأطفال لا يحتاج إلى معلومات سابقة ابتداء، لأنها جزء من عمل الدماغ بواسطة الربط الاسترجاعي. وبعد تحصيل الطفل لثروة لغوية كافية بالربط بين الأسماء ومعانيها أي مسمياتها، يصبح مالكا للوسيلة اللازمة لتلقي المعلومات السابقة بحيث يستطيع بواسطة اللغة من تركيب معاني معينة مما يتلقاه ويتعلمه ممن حوله أي تكوين نماذج فكرية جاهزة يعرفها الدماغ نسميها المعلومات السابقة وبالتالي تتم عملية تشكيل وبرمجة فكر الطفل بواسطة اللغة.
والله تعالى أعلى وأعلم                  
تم نشر هذا الموضوع في منتدى العقاب بتاريخ 12/2005  والرابط كالتالي
http://www.alokab.com/forums/index.php?showtopic=7087&st=20

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

شكرا لك على التعليق