الأربعاء، 29 أغسطس 2012

تلخيص نظري لأثر الصراع الحضاري على الحراك الثوري


تلخيص نظري لأثر الصراع الحضاري على الحراك الثوري

السلام عليكم ورحمة الله

لأجل وضع النقاط على الحروف، فقد قمت بتلخيص موضوع "الحراك الثوري والصراع الحضاري"  النشور في هذه المدونة سابقا، ليكون على شكل نقاط متسلسلة وذلك لابراز النقاط الهامة وعلاقتها فيما بينها. الهدف من ذلك هو أن يستطيع القارئ فهم الموضوع وتصوره دون تطويل.
وإليكم تلخيص الموضوع كما يلي:

1.    صراع الحضارات قائم بين الأمم المختلفة وهو صراع حتمي ومستمر، والصراع الحضاري بين الإسلام والرأسمالية يصعد ويهبط ولكنه لا يتوقف. والحضارة عابرة لحدود الدول.
2.    صراع الحضارات كان ولا يزال مستمرا في بلاد المسلمين، لأن الفكر الذي فرضه الاستعمار هو فكر رأسمالي مستورد وحضارة فرضت زورا على واقع حضاري مخالف، بالقوة الاستعمارية القاهرة والاستبداد والقمع والجبروت.
3.    البعد الحضاري في الصراع عامل يغفله الكثيرون رغم وجوده وتأثيره على أفكار الناس وتوجهاتهم وسلوكهم، وهو واحد من العوامل والأسباب الهامة المحركة للثورات. والنظر للأمور من زاوية الصراع الحضاري يجعل رؤية النتائج والمآلات أكثر وضوحا وحتمية.
4.    الحضارة الإسلامية انكمشت ثم ضعفت ولكنها لم تزول رغم هدم دولة الخلافة، وبقيت كامنة في فؤاد الأمة الإسلامية، واتجهت نحو الصعود خلال العقود الماضية.
5.    عمق تأثير الإسلام في الأمة الإسلامية جعلها تصارع حضارة الغرب بنفسها وأحزابها الإسلامية. وصراع الحضارات هذا كان موجودا قبل حدوث الحراك الثوري، وقد ازداد أثناء الثورات وبعدها.
6.    لقد بدأت الحيوية تدب في الأمة الإسلامية إثر الهزات العنيفة التي مرت بها الأمة، وعادت ثقة المسلمين بحضارة الإسلام، وبدأت مؤشرات ذلك تظهر من خلال حالة الصحوة الإسلامية ونشوء حركات إسلامية متعددة، وانحياز الرأي العام لمن يرفع شعار الإسلام. فكان لا بد من حدوث التغيير.
7.    هناك مؤشرات على انكماش الحضارة الغربية في بلادها، وانكماشها وتراجعها بشكل كبير في العالم الإسلامي، وقد استنفدت الحضارة الرأسمالية أغراضها في بلادنا، فكان لا بد من تحرك شعوب الأمة في صراعها لبقايا هذه الحضارة. لتحل محلها حضارة الإسلام.
8.    أحداث 11-9 -2001 وإعلان امريكا الحرب على الإرهاب ومشروعها الإمبراطوري في العالم كان إذكاءً وتسريعا للصراع الحضاري بين الغرب والمسلمين، وأدى إلى انحياز المسلمين نحو حضارتهم.
9.    التغيير يأتي من قبل الناس في نفوسهم أولا وكنتيجة سببية يغير الله ما بهم من حال رفضوه إلى حال جديد أرادوه، التغيير الحضاري يكون في العادة بطيئا لكنه يكون تغييرا أكيدا وعميق الجذور.
10. عندما لا يحدث التغيير طبيعيا وتبلغ الأمور حد التأزم عند طغيان الفساد، لا بد حينها من نبذ هذا الاختلال وإحداث التغيير، لأن سنة الله تقضي بسرعة هلاك الظالمين وعقوبتهم في الدنيا.
11. إحداث التغير بالثورة يأتي بفعل عوامل داخلية وخارجية كثيرة ومنها شدة الظلم والتجبر والفساد وفقدان الكرامة والحرب على فكر الأمة وهويتها وحضارتها.
12. الصراع التدافعي بين الأمة وحكامها بهدف إزالة الظلم والظالمين يحدث عند وصول الظلم والتجبر من الحكام إلى حد الأزمة المحرك للثورة. وهذه الثورة سنة ربانية تحدث بوجود أسبابها.
13. الحراك الثوري الهادف لإزالة ظلم الأنظمة، يعبر بشكل جلي عن السعي لهدم الأنظمة التي تمثل أذرع حضارة الغرب، وتعبر عن انحسار حضارة الغرب في نفوس المسلمين وسعي الأمة نحو البديل الحضاري الأمثل.
14. الحكومات العميلة لم تدرك طبيعة مرحلة الصراع التي تعيشها الأمة، وتظن أن قوتها العسكرية وأمنها ومخابراتها كافية لحماية عروشها في وجه غضب شعوبها.
15. غضب الشعوب وصل أوجه نتيجة لأسباب متعددة من أهمها شعورهم بالظلم والفساد وبجبروت الحكام وتخاذلهم أمام الدول الرأسمالية الظالمة وخذلان أهل فلسطين وغيرها من الأسباب، ولكنها شروط غير كافية لحدوث الثورة وهي بحاجة إلى اسباب هامة مثل وجود شرارة ورؤية لفكر بديل.
16. شروط الثورة كانت كامنة في تونس، وأضيف إليها صراع حضاري شديد بإعلان النظام البائد الحرب على الإسلام وحملة دعوته بالدعوة السافرة إلى العلمانية الملحدة وإغلاق المساجد والتضييق على مصليها ومحاربة الحجاب وغير ذلك من البلايا.
17. شرارة الحراك الثوري كانت من تونس لأن جرعة الصراع الحضاري بالإضافة إلى كافة أشكال الظلم فيها قد بلغ مبلغه، وتحرك الناس لوجود أفق للتغيير وفق رؤية حضارية بديلة عن حضارة الغرب.
18. كسرت الشعوب حاجز الخوف وكل الحواجز التي تقف في طريقها فحدثت الثورة، وكان حراكها بشكل جماعي وعفوي من قبل المسلمين في تونس، ثم انتقلت إلى البلدان المجاورة بتأثرها بثورة تونس ولوجود شروط كامنة للثورة فيها.
19. المرحلة التي نمر بها هي مرحلة تصفية الحكم الجبري الطاغوتي الظالم، وتكون فرصة الإسلاميين الوسطيين لتولي الحكم خلالها كبيرة ولكن الأمور حضاريا سرعان ما ستتجاوزهم، وسيتبعها حتما مرحلة حضارية جديدة هي مرحلة الخلافة الراشدة إن شاء الله.
يوسف الساريسي
في 28/8/2012

الخميس، 23 أغسطس 2012

لزوم المعلومات السابقة لعملية التفكير


السلام عليكم

هناك عدة أسئلة لا بد لنا من الإجابة عليها لفهم موضوع المعلومات السابقة ومنها الآتية:

لماذا يوجد أهمية للمعلومات السابقة في التفكير؟

كيف يتلقى الإنسان المعلومات السابقة؟

لماذا نحتاج المعلومات السابقة للتفكير؟

وللجواب عليها نذكر النقاط التالية:

1.       تعريف التفكير: نقل الحس بالواقع بواسطة الحواس إلى الدماغ ووجود معلومات سابقة يفسَّر بواسطتها هذا الواقع.

2.       أحد الشروط الضرورية للتفكير اللازم لتفسير الواقع والحكم عليه، هو وجود معلومات سابقة تتعلق بالواقع، وبدون المعلومات السابقة لا يمكن تفسير الواقع وفهمه أي لتكوين معنى ذهني جديد لفهم الواقع والحكم عليه.

3.       المعومات السابقة عن الواقع لا تكون موجودة من خلال الإحساس بهذا الواقع، ولو كانت موجودة في ذات الواقع لما احتجنا أصلا إلى معلومات سابقة للقيام بعملية التفكير.

4.       أما كيف: فإنه من الواضح أن التفكير والمفكر بحاجة لتلقي هذه المعلومات من غيره للحصول على معاني تساعد في تفسير وفهم الواقع، ويتلقاها الإنسان ممن حوله بواسطة السماع أو القراءة أو الإشارة.

5.       المعاني عن الواقع هي غير الواقع المحسوس فهي معاني توجد في الأذهان، فإذا كانت في ذهن المفكر، ربطها بالواقع ففسرها وحكم عليها، وإذا لم تتوفر لديه هذه المعاني فوجب أن يتلقاها من غيره.

6.       الطريقة المعتادة لتلقي المعلومات السابقة التي عند غيره تكون بوسيلة معروفة هي اللغة، فيتلقى المفكر من خلال اللغة المعاني الذهنية اللازمة للقيام بتفسير الوقائع المبهمة الغامضة.

7.       أما لماذا: فلأن المعلومات السابقة المتعلقة بالواقع يتم الحصول عليها من خارج هذا الواقع المحسوس. ولا يمكن أن توجد في ذات الواقع بحيث يتم الحصول عليها بالإحساس والتجربة والمشاهدة لأنها ليست موجودة في الواقع، بل هي معاني توجد في ذهن المفكرين، ولا يجدها مخزونة في جزء من هذا الواقع.

8.       أما ما يجده الإنسان في الواقع فهو ما يحسه بحواسه بذات الأشياء وصفاتها فهي توجد معرفة حسية أو تمييزية للأشياء (انطباعات)، ولا تعطي الواقع المحسوس معرفة علمية فكرية كمعلومات سابقة لازمة للقيام بعملية التفكير.

9.       المعلومات السابقة التي تتشكل من المعاني الذهنية في الدماغ هي نماذج فكرية معروفة سابقا لدى الدماغ يقوم من خلالها بتحديد هوية الشيء المحسوس.

10.   يحتاج الدماغ إلى تكوين نماذج فكرية للأشياء لينتج معنى يعرف به كل كيان جديد ويعطيه هوية جديدة.

11.   الهوِّية تتشكل عندما يسمي الدماغ الأشياء بتحديد أجزاء معينة وربطها معا وإعطائها وصفا كيانيا أي هوية خاصة (اسم جديد).

12.   يميز الدماغ بين الكيانات المختلفة من خلال تجريد معاني مشتركة ومختلفة بينها ويحاول تكوين نماذج فكرية مجردة يختزنها في الذاكرة.

13.   تتم عملية تحديد هوية الأشياء من خلال قيام الدماغ بعملية تبويب وتصنيف لها حسب المعاني العامة المشتركة بين الأشياء.

14.   المعاني العامة المشتركة بين الأشياء هي مسميات ذهنية معينة قد تتعلق بالصفات والخواص كالشكل أو اللون أو الثقل أو الرطوبة أو الحرارة أو قد تتعلق باللوازم أو الارتباطات بالظروف المحيطة أو الشروط اللازمة لوجود الأشياء أو قد تتعلق بماضي الأشياء وبعملية تغيرهذه الأشياء وانتقالها من حال إلى حال جديد في المستقبل وغير ذلك.

15.   معاني الأشياء هي ارتباط ذهني في الدماغ بين اسم الشيء ومسماه بحيث يشكل ذلك نموذجا فكريا مخزونا في الدماغ.

16.   بما أن المعنى يتعلق باسم الشيء واسم مسماه، وهذا الاسم والمسمى لا يمكن أن يوجد لا في الواقع ولا في الدماغ ابتداء، كان لا بد من الحصول عليه بالتعلم والتلقي من الغير. وبدون ذلك فلا وجود لمعاني ذهنية ولا لمعلومات سابقة عن الواقع.

17.   المعنى الذهني المشترك بين الأشياء هو اساس عملية الربط الفكري في الدماغ وهو أساس التشبيه والقياس العقلي، فمسمى الحرق مثلا يرتبط بالحرق المتولد من النار الناتجة من احتراق الخشب والفحم والبنزين والسولار والكاز والغاز والفحم الحجري إلخ ، فلو ادركنا احتراق الخشب يمكننا استخدام معنى الحرق من خلال مادة أخرى تحمل نفس المسمى أي نفس المعنى كالغاز والبنزين ويمكننا تغيير الواقع مستقبلا بتصور التأثير الذي يحدث في صفات الأشياء من خلال استخدام معنى الحرق.

هذه النقاط المذكورة أعلاه هي ما أراه الآن مناسبا لفهم موضوع المعلومات السابقة وعلاقتها بالتفكير

ويمكننا من خلال النقاش والحوار التحسين التطوير والزيادة عليها بما يتناسب مع أهمية الموضوع.

والله تعالى أعلى وأعلم
الرابط في منتدى العقاب كما يلي:
http://www.alokab.com/forum/index.php?showtopic=1830&#entry11096

الأحد، 12 أغسطس 2012

الربط الاسترجاعي والربط الذكي في الدماغ

الربط الاسترجاعي والربط الذكي في الدماغ


يستخدِم الدماغ في عملية التمييز الغريزي التي تجري عند الإنسان والحيوان بعض "قوانين عمليات الدماغ" والتي هي مفطورة في هذا الدماغ، ومنها القدرة على تخزين الإحساس في الذاكرة واسترجاعه. ويتفوق الإنسان على الحيوان بكون عملية أن الدماغ لديه صالح للربط بمعنى أن الربط لديه يشمل استخدام جميع "قوانين عمليات الدماغ" وخصوصا قدرته على تكوين النماذج الفكرية أي تركيب معلومات جديدة من المعلومات السابقة وتذكرها.

إن تعلم الأطفال اللغة الأولى يحدث بدون الحاجة إلى معلومات سابقة أي بدون عملية تفكير، وذلك بالاعتماد على بعض "قوانين العمليات الدماغية" ومنها عملية الربط الاسترجاعي. فيستطيع الطفل بواسطة عملية الاسترجاع بوجود خاصية الربط في دماغه واستخدام جميع العمليات الدماغية إلى درجة ما، أن يُكوّن "معلومات" معينة من مجموع ما يحسه وما يسترجعه من إحساسات فيما يتعلق بالغرائز والحاجات العضوية، فيعرف من تكرار إعطائه التفاحة والحجر، أن التفاحة تؤكل والحجر لا يؤكل، ويعرف من تكرار المشاهدة قدرة الخشب أن يعوم فوق الماء.

وباستخدام عملية الربط الاسترجاعي يعرف من تكرار سماعه لكلمة حجر أو لفظة تفاحة مثلا مقترنة كل كلمة بإحساسه بعين الشيء، أن هذا الشيء اسمه حجر وذاك الشيء الآخر يسمى تفاحة، فيحصل لديه ربط بين الأشياء وأسمائها. ويعرف كذلك إنه إذا سمع بكلمة "ألم" مقترنة بإحساسه بالألم من جرح السكين أو من حرق النار أو من ضرب الوالد له، عرف معنى الألم المقترن بتكرار اللفظ المشترك الجامع لهذا المعنى. ويعرف من حنو ورحمة أمه وأبيه عليه ورعايتهما له وما يحسه كذلك من نفس المعاملة من أقاربه يعرف معنى كلمة "المحبة" عند اقتران ذلك التصرف مع لفظة مشتركة هي الحب، وهكذا يبدأ بتحصيل اللغة بربط الألفاظ بالمعاني التي يتصورها آنذاك، أي ربط الأسماء بالمسميات.

وبعد تحصيل ثروة لغوية كافية من الأسماء والمسميات، يصبح مالكا للوسيلة اللازمة أي اللغة لتلقي المعلومات السابقة ويصبح جاهزا للتفكير. وبتلقي الإنسان معلومات سابقة ممن حوله بواسطة اللغة متعلقة بواقع معين فإنه عند إحساسه بهذا الواقع يقوم بعملية التفكير فيه أي إنتاج الفكر بالحكم عليه، وهذه العملية تخضع لقوانين عمليات الدماغ بما نسميه عملية الربط الفكري التي هي جوهر التفكير.

فما هو واقع عملية الربط هذه والتي تشكل الاختلاف الجوهري بين فكر الإنسان والتمييز الغريزي لدى الحيوان؟ ولكن قبل الإجابة لا بد من توضيح الفرق بين أنواع المعلومات أو المعرفة التي يحصل عليها الإنسان بحواسه:

1- معرفة حسية (حس فقط): تأتي مباشرة من الإحساس بوجود الأشياء وبعض صفاتها والظواهر المرتبطة بها وهي قطعية
2- معرفة تمييزية استرجاعية (حس وربط استرجاعي فقط): تأتي من تفاعل الحس بقوانين عمليات الربط الدماغية واسترجاعها وهذه المعرفة على شكلين:
ا- طبيعية فيما يتعلق بالغرائز والحاجات العضوية فيعرف أن التفاحة تؤكل والحجر لا يؤكل.
ب- تقليد ومحاكاة ما يحس به في الأمور غير المتعلقة بالغريزة بتكرار الإحساس والاسترجاع، فالأطفال باستخدام جميع قوانين العمليات الدماغية يستطيعون تعلم اللغة الأولى في حين لا يستطيع الحيوان ذلك لفقدان دماغه بعض قوانين العمليات الدماغية المتطورة.
3- معرفة علمية فكرية (حس وربط ومعلومات سابقة): تأتي من تفاعل الحس مع معلومات أسبق منها بقوانين عمليات الربط الدماغية لتركيب معرفة جديدة منها كتعلم الكتابة والقراءة ولغة ثانية.

وهنا يرد سؤال وهو هل يمكن تكوين معرفة علمية بدون معلومات سابقة بواسطة الربط الاسترجاعي فقط؟

إن المعرفة الناتجة من عملية الربط الاسترجاعي لا توجد علما بل معرفة تمييزية، فيستطيع الإنسان من التفاعل بين الحس وقوانين عمليات الربط الدماغية أن ينتج معرفة أولية تمييزية، يعرف بها ما يشبع جوعاته وينفعه ويعرف ما يجب أن يتجنبه مما يضر وما لا يشبع طاقته الحيوية. ولكن هذه المعرفة لا يمكن أن تتطور إلى معرفة علمية تصلح للتفكير الذكي لفقدانها معلومات أساسية تتعلق بمعلومات أساسية عن الواقع المراد التفكير فيه لتكوين معنى جديد لتفسير هذا الواقع، أي أن التفكير في واقع معين بحاجة إلى نماذج معرفية فكرية تتعلق بهذا الواقع وليس إلى مجرد معرفة تمييزية أو إلى مطلق معرفة عن أي شيء آخر، وذلك مثل تعلم كتابة السريانية وقراءتها والتي هي بحاجة إلى المعلومات السابقة عن هذه اللغة وشكل أحرفها وربط ذلك بكيفية لفظ هذه الأحرف وكلماتها وجملها.

فمن أين تأتي النماذج المعرفية الفكرية (المعلومات السابقة) التي تتعلق بالواقع المراد التفكير فيه؟

إن المعلومات السابقة عن واقع معين والتي لا يملكها دماغ الإنسان ابتداء، ولا يمكن أخذها من عملية الربط الاسترجاعي، بل لا بد أن تأتي من غيره بالتلقي والتعلم، ولكن هذين الأمرين يحتاجان إلى واسطة تصلح لاحتواء المعاني المطلوبة أي المعرفة العلمية ويمكن تناقل هذه المعرفة بين البشر، ونعلم أن هذه الواسطة الصالحة هي اللغة كما ذكر سابقا. فيستطيع الطفل باللغة أن يتعلم ويتلقى المعرفة العلمية البسيطة ويبدأ بربط هذه المعرفة الجديدة بالمعرفة الأولية التمييزية التي لديه أي من المعاني اللغوية البسيطة التي يملكها بالربط الاسترجاعي، وذلك للبناء عليها من خلال تركيب معاني متطورة ومعقدة من مجموع معاني أبسط منها يملكها سابقا، أي يستطيع تكوين نماذج فكرية متطورة يخزنها في الدماغ في ملف فكري يعرِّفه بهوية جديدة من خلال اسم لغوي تلقاه من غيره أي ممن حوله، وهذه المعاني الجديدة المركبة من معاني أسبق منها نسميها المعلومات أو المعرفة الفكرية.

وهكذا نرى كيف تتم عملية تشكيل وبرمجة فكر الطفل بواسطة اللغة، فلولا اللغة لما استطاع الإنسان القيام بعمليات التفكير الذكية لأنه لا يمكنه الحصول على المعلومات السابقة اللازمة للتفكير الذكي إلا باللغة.

وهنا نعود للجواب عن السؤال حول واقع عملية الربط الذكي التي تشكل الاختلاف الجوهري بين فكر الإنسان والتمييز الغريزي لدى الحيوان؟     
      
عملية الربط الفكري

للجواب عن السؤال السابق حول "ما هو واقع عملية الربط الفكري التي تشكل الاختلاف الجوهري بين فكر الإنسان والتمييز الغريزي لدى الحيوان؟" يكون الشرح والتفصيل كما يلي:

إن تعريف عملية التفكير كما وردت في كتاب "التفكير" للشيخ تقي الدين رحمه الله تعالى وأثابه وجزاه خير الجزاء، هي كما يلي:

(وعلى ذلك فإن الطريق المستقيم الذي يؤدي إلى معرفة معنى العقل معرفة يقينية جازمة هو أنه لا بد من وجود أربعة أشياء حتى تتم العملية العقلية أي حتى يوجد العقل أو الفكر. فلا بد من وجود واقع، ولا بد من وجود دماغ صالح، ولا بد من وجود حس، ولا بد من وجود معلومات سابقة. فهذه الأربعة مجتمعة لا بد من تحققها جميعها وتحقق اجتماعها، حتى تتم العملية العقلية، أي حتى يوجد عقل أو فكر أو إدراك.
وعليه فالعقل أو الفكر أو الإدراك هو: نقل الحس بالواقع بواسطة الحواس إلى الدماغ ووجود معلومات سابقة يفسَّر بواسطتها هذا الواقع.)

ونلاحظ من هذا التعريف أن جوهر عملية التفكير هو التفسير، أي أن التفكير يعني تفسير الواقع. فما هي حقيقة التفسير؟

التفسير: هو جمـــع ألفاظ أشكلت بلفظ لا إشكال فيه، أي أنه لفظ ظاهر وواضح وفصيح بيين معنى لفظ غامض، ويفهم منه مراد المتكلم ودافعه وقصده، أو التفسير يأتي بمعنى التأويل أي توقع نتيجة الأمور. وما ينتج من التفسير أنه يزيل الخلط والتمويه والتستر والحيرة والاشتباه والتشكك في النفس. وبكلمات أخرى فإن التفسير يعـنـي وجود واقع غامض ومشكل ومحير في الذهن، يراد إظهار وتوضيح حقيقته ومعناه وما ينتج عن الانتفاع به بمقارنته بما يشبهه من الأمور الواضحة. إذن فخلاصة التفسير تقتضي أن يتم الجمع (الربط) بين معنى واقع فيه إشكال بمعنى آخر متصور في الذهن لا إشكال فيه.

أما واقع المعنى: فهو ظهور ووضوح صورة شيء ما في الذهن. ويتم إظهار المعنى بتمثيل الشيء الغامض بشيء آخر يشبهه يكون واضحا ومعروفا متصورا في الذهن، ووجه الشبه بينهما يكون باشتراكهما في صفة أو مظهر شكلي أو شروط محيطة ... وغير ذلك.

فنلاحظ هنا أن التفسير هو ربط بين معنى واقع معين فيه إشكال بمعنى آخر متصور في الذهن لا إشكال فيه. وهذا بالضبط ما نلاحظه من فهمنا لواقع عملية التفكير إذ إن المسألة هي في جوهرها هي عملية ربط فكري. يقول الشيخ تقي الدين رحمه الله تعالى في كتاب التفكير: "بل الذي يدل على أن هناك عقلاً أو فكراً، ويكون عملية عقلية حقاً، إنّما هو الحكم على الأشياء ما هي، والحكم على الأشياء ما هي لا يتم إلاّ بعملية ربط. وربطٌ بمعلومات سابقة. ومن هنا كان لا بد من وجود معلومات سابقة لأية عملية ربط حتى يوجد العقل أو الفكر، أي حتى تكون العملية العقلية".

ومن ذلك نستنتج أن معنى التفكير هو التفسير وهو عملية الربط الفكري الذكي في الدماغ، وهذه العملية تتم كالتالي:

الواقع الخارجي: أمر محسوس غامض في الذهن لا معنى له. (يوجد حيرة وتشكك والتباس في النفس)
النتيجة المطلوبة: فهم الواقع بإظهار وتوضيح صورته في الذهن.
الكيفية: ربط هذا الواقع بـنماذج فكرية لها معنى وواضحة في الذهن (معلومات سابقة) بإيجاد المشترك والشبه بين الواقع الغامض وواقع آخر واضح. ويتم ذلك باتباع الخطوات التالية:

1. تحليل الواقع الغامض إلى أجزاء بسيطة أي فكفكة وإزالة الروابط بين أجزاء هذا الشيء
2. استحضار أمور لها معنى واضح في الذهن من الذاكرة تشبه وتشترك مع الأجزاء المفككة في صفة أو مظهر شكلي أو شروط محيطة...الخ.
3. تجميع الأجزاء التي أصبحت واضحة في الذهن أي إعادة تركيبها بإيجاد روابط تجمعها معا كرابطة الاشتراك أو رابطة السببية أو غيرها.
4. إنتاج وتشكيل نموذج فكري ذي معنى جديد واضح في الذهن لهذا الكيان المترابط (الحكم على الواقع)

ومن ما ورد أعلاه نستطيع استخلاص واقع عملية الربط الفكري بالقول:

الربط الفكري هو تفسير واقع محسوس غامض ليس له معنى في الذهن بتوضيح صورته من خلال عملية تحليل هذا الشيء إلى أجزاء أبسط لها نماذج مشابهة وواضحة يعرفها الدماغ (معلومات سابقة) ثم تركيب هذه الأجزاء بربطها معا ككيان واحد لتشكيل نموذج ومعنى جديد لهذا الواقع

أمثلة:
ولنأخذ بعض الأمثلة للتوضيح الموضوع وهي نموذجان (مضخة مائية وسيارة) ولدينا هنا واقع يراد الحكم عليه لمن لا يعرفه، وفق الطريقة العقلية بالربط الفكري لتفسير كل من الواقعين:

المثال الأول (مضخة ماء):

لنفترض أنك لا تعرف ما هي مضخة الماء ونرى كيف يتم التفكير بها والحكم عليها بتفسيرها بالربط الفكري من خلال التحليل والتركيب. فنقول إن مضخة الماء هي آلة تستخدم لرفع الماء من مكان منخفض إلى منسوب أعلى بسرعة. وهذا هو المعنى والنموذج المراد تشكيله في الدماغ.

ونبدأ بتحليل هذا الشيء وهو المضخة إلى الأجزاء المكونة لها وهي: أنبوب شفط داخل مجمع مياه، أنبوب مخرج متصل بأنبوب آخر لتوصيل المياه إلى المكان البعيد ذو المنسوب الأعلى، محور دائري من الحديد، مروحة ذات فراشات، جسم حديدي مجوَّف لولبي، محرك يولد عزم دوران.

أما الأمور التي لها معنى واضح في الذهن تشبه وتشترك مع الأجزاء المفككة فهي قضيب طويل يشبه المحور الدائري، مروحة تدفع الهواء ذات فراشات، قشرة حيوان الحلزون ذات الشكل اللولبي، أنبوب أو ماسورة مجوفة واسطوانية طويلة، بئر ماء غائر في الأرض، خزان مياه فوق جبل.

ولفهم المعنى النموذجي للمضخة لا بد من تجميع الأجزاء التي هي واضحة في الذهن أي إعادة تركيبها بإيجاد روابط تجمعها معا، وذلك يكون بتصور المعنى العام أي الهدف من المضخة بما يشبهه، مثل تصور بكرة فوق بئر ماء يلقى الدلو إلى الماء في الأسفل ليملأ ثم يسحب بالحبل (السبب) ليرفع الماء إلى الأعلى بواسطة الدلو ويصب في وعاء أكبر حوض ماء.

ولتركيب صورة آلة رفع الماء أي المضخة فإن أنبوب الشفط داخل بئر الماء يكون غاطسا في الماء كما يغطس الدلو، ثم يرفع الماء إلى أعلى بفعل دوران فراش المروحة كما تدور البكرة حول محورها. والذي يدير البكرة هي قوة يد الإنسان فيما يدير مروحة المضخة حول محورها محرك يعطيها القوة اللازمة للدوران. ويدفع الماء الواصل إلى تجويف جسم المضخة الحلزوني إلى الأنبوب الخارج من المضخة بقوة بواسطة طاقة دوران المروحة، فيندفع الماء في الأنبوب المتصل بمخرج المضخة ليصب أخيرا في حوض كبير أي خزان للمياه.

وبهذا الربط وتركيب المعاني البسيطة معا يتم إنتاج وتشكيل نموذج فكري ذي معنى جديد واضح في الذهن لهذا الكيان المترابط وهو مضخة رفع الماء وهذا المعنى الجديد هو الحكم الذي أصدره العقل وفسر به واقع وحقيقة مضخة الماء. وتم تخزين هذا المعنى للمضخة في ملف جديد في الذهن باستخدام مصطلح جديد اسمه "مضخة الماء"، أي وجد نموذج في ذاكرة الدماغ يتم تذكره واسترجاعه لاحقا من هذه الذاكرة لتركيب معاني أخرى جديدة بالاستناد إلى هذه المعلومة التي ستصبح معلومة سابقة لغيرها. وذلك مثل تصور معنى جديد لإسم جديد هو "التوربين" الذي يولد الطاقة الكهربائية من شلال المياه. ويتم ذلك بعكس مفهوم ومعنى المضخة التي هي الآن معلومة سابقة في النموذج الفكري المتصور بصورة واضحة في الذهن.

المثال الثاني (السيارة):

وهي وسيلة تهدف إلى نقل الناس والبضائع من مكان لآخر بسرعة وراحة (المعنى هنا هو الهدف) والأجزاء الأساسية في السيارة هي عجلات ومحرك وحامل أساسي للأوزان وروابط بينها وما يتعلق بذلك من طاقة لازمة للمحرك والتحكم في سرعته وتوقيفه وسيطرة على اتجاه العجلات.

عملية تحليل الأجزاء إلى نماذج ذهنية لها معاني معروفة (معلومات سابقة): عجل دائري وعملية حركته الدورانية إلى الأمام، حصان يجر شيئا خلفه بقوة، كرسي يجلس عليه شخص، وعاء يحتوي البضاعة، باب، زجاج، قضيب دائري، حامل حديد، كابح احتكاك، ضوء، مسامير وبراغي ومرابط لربط الأجزاء المختلفة...الخ

عملية التركيب: ربط العجلات بقضبان دائرية وجلوس الحامل الرئيسي من الحديد فوقها بروابط ملائمة ثم حملها للكراسي ووعاء البضائع بروابط ملائمة ثم جلوس الركاب عليها. وتصور المحرك الدافع للأمام وحاجة المحرك إلى طاقة دافعة من الوقود وتصور سائق ويتحكم في بدء الحركة والسرعة والوقوف والاتجاه. فيتشكل النموذج الجديد في الذهن لـ "اسم" جديد هو "السيارة" ويتشكل "مسماه" أي معناه أو هدفه وهو وسيلة نقل الأشخاص والبضائع من مكان إلى آخر بسرعة وراحة. وبذلك تم تفسير واقع السيارة هذا والحكم عليه وإيجاد نموذج له في ذاكرة الدماغ يتم تذكره واسترجاعه لاحقا لتركيب معاني أخرى جديدة.

وإذا كان هناك جزء من أجزاء السيارة بعد تحليلها ليس له نموذج معروف المعنى (معلومة سابقة) كالمحرك مثلا، فإنه يجب أن تتم عملية تشكيل نموذج جديد له أولا، وذلك من خلال تصور عملية سحب الحصان للعربة ودوران عجلاتها خلفه إلى الأمام باندفاع سريع، ثم تصور المحرك كبديل لجر الحصان وذلك بتصور أن دوران العجلات يتسبب عن دوران المحرك ونقله الحركة إلى هذه العجلات من خلال روابط ناقلة ملائمة. ليتم تكوين معنى جديد لمسمى المحرك ويختزن في الدماغ تحت ملف جديد اسمه المحرك أو الموتور فتتشكل منه معلومة سابقة.

تم نشر الموضوع في منتدى العقاب في شهر 1/2006 والرابط كما يلي:

والسلام عليكم

العلاقة بين التفكير واللغة

العلاقة بين التفكير واللغة


استكمالا لموضوع "قوانين التفكير" ولأجل تطوير الموضوع وللإجابة على السؤال الرئيس:
هل البديهيات هي معلومات سابقة علمها الله لسيدنا آدم أم هي معلومات أولية مفطورة في الدماغ البشري ؟

فلا بد من التأكيد هنا مرة أخرى قوانين التفكير هي تلك الضوابط التي تتحكم في عملية إنتاج الفكر أي تسيطر على ”خاصية الربط" ذلك أن عملية التفكير بمجملها تجري وفق علاقة السببية بين طرفين يتم ربطهما معا هما:

1. السبب وهو (الواقع المحسوس المنقول إلى الدماغ)
2. المسبَّب وهو (الفكر المنتج أو الحكم الصادر)

وهذه العلاقة لإنتاج الفكر لا بد أن تجري وفق قوانين وسنن معينة تتحكم وتسيطر على عملية الإنتاج أي للوصول إلى الحكم على الواقع وقد تم تسمية هذه القوانين بــ "قوانين التفكير".

وبعد التفكير والتدبر فقد غلب على الظن أن هذه القوانين أي "قوانين التفكير" يجب أن تكون ذاتية في الدماغ وليست مكتسبة بالتعلم لأنها ليست معلومات سابقة ولا هي جزء من الواقع الخارجي المنقول إلى الدماغ، لذلك فهي مفطورة في الدماغ ويكون الدماغ من خلال استخدامها صالحا للربط بين الواقع المحسوس والمعلومات السابقة وقادرا على القيام بالعملية الفكرية أي إنتاج الأفكار.

لكن الدماغ لا يستطيع أن ينتج الأفكار سواء البديهية أو ما يبنى عليها إلا بأمرين هما المعلومات السابقة والواقع المحسوس.
أما المعلومات السابقة فهي لازمة من خلال ملاحظة القانونين رقم 1 و2 من قوانين التفكير وهما:

1. الهوِّية: يسمي الدماغ الأشياء بتحديد أجزاء معينة وربطها معا وإعطائها وصفا كيانيا أي هوية خاصة.
2. يعطي الدماغ لكل كيان معنى يتعلق به كالإنسان والقمر والفيل ويحدد صفات هذا الكيان مثل الشكل واللون والثقل والرطوبة والحرارة ويحدد لوازمه وارتباطاته بما حوله (شروط).

ووفق القانون الأول لا بد للكيان الذي يحس به الدماغ من "اسم"، ولا بد وفق القانون الثاني للاسم من معنى يرتبط به أي "مسمى".
وهذا الربط بين الاسم والمسمى لا بد له من واسطة أو أداة تستخدم وهي "اللـــغـــة".

وواقع اللغة أنها ألفاظ وضعت بإزاء معاني معينة، أي لفظ (اسم) ارتبط واقترن في الذهن بمعنى معين "مسمى". فأي معنى لشيء محدد يتصوره الذهن لا بد أن يخزنه في الدماغ في ملف معين تحت اسم يعرفه ويستطيع تذكره واسترجاعه لاحقا مع كل ما يتعلق به من صفات وخاصيات وشروط ولوازم تتعلق بما حوله كلها يحتويها الملف ولها هوية خاصة يعرفها الدماغ من خلال الاسم، فالاسم الملف هو الهوية للشيء.

واللغة لا تتعلق بالفرد وحده بل تتعلق بالمجموعة البشرية أي نظام المجتمع الذي يعيش فيه الإنسان، ذلك أن الإنسان مدني بالطبع أي لا بد له أن يحيى ويعيش مع غيره من بني الإنسان ليستطيع قضاء حوائجه وتحقيق أهدافه وهذه لا تتم إلا بالتعاون مع غيره. والحياة والتعاون مع الناس لا بد لها من وسيلة يعبر فيها كل واحد من الأفراد عن ما يجيش في عقله من معاني وما يريد أن يحقق من رغبات ليستمر عيشه ويتم تحسينه، وهذه الوسيلة هي (اللــغـــة). لذلك فإن تسمية الإنسان بأنه حيوان ناطق ليست بعيدة عن الصواب لأن عملية التفكير لدى الإنسان والتواصل مع غيره يلزمها النطق والكلام أي اللغة.

والخلاصة أن اللغة شرط في عملية التفكير وهي أداة وواسطة يتم بها ربط معنى معين في الدماغ بهوية ملائمة من خلال لفظ محدد يتعلق بهذا المعنى هو "الاسم"، فاللغة هي وعاء الفكر.وهي ليست جزءا منه.

هل اللغات توقيفية أم اصطلاحية ؟

اختلف المتكلمون حول مسألة هل اللغات توقيفية أو اصطلاحية وانقسموا فريقين، فمنهم من اعتبرها توقيفية لأن الله علم آدم الأسماء كلها أي علمه اللغات، ومنهم من اعتبرها اصطلاحية كما رأوها من واقع اللغات في وقتهم وفسر هذا الفريق تعليم الله لآدم بأن علمه مسميات الأشياء وليس اللغة. وكلا الفريقين مصيب من جهة ومخطئ من جهة أخرى ومكمن الخطأ آت من اعتبارهما اللغات جامدة لا تتطور مع الزمن.

نستطيع أم نفهم من آيات سورة البقرة حول استخلاف آدم عليه السلام، أن الله تعالى علم آدم عليه السلام أسماء الأشياء مقرونة ومربوطة بمسمياتها أي علمه لغة معينة وأعطاه معلومات سابقة لازمة له ليفكر، أي علمه لغة أولى هي أم جميع اللغات البشرية، ثم افترق الناس في الأرض إلى شعوب وقبائل. واختلفت الألسن التي يتكلمون بها بسبب أن طبيعة اللغة البشرية أنها متغيرة ومتطورة كما هو حاصل بالنسبة للغة العربية وكيف تطورت منها اللغات العامية التي نراها الآن، وكذلك كيف تفرعت اللغة اللاتينية إلى اللغات الإيطالية والأسبانية والبرتغالية وهكذا، وهذا دليل على تطور اللغات البشرية عبر الزمن. ولهذا فإن الصحيح الذي يغلب على الظن أن اللغات ليست توقيفية من الله بل هي اصطلاحية يصطلح كل قوم على لغة مشتركة يتخاطبون بواسطتها فيما بينهم وجميع هذه اللغات متطورة عن لغة آدم الأولى التي علمه الله إياها.

وهناك سؤال يسأل: وهو هل يحتاج تعلم اللغة إلى معلومات سابقة؟

حتى نجيب على هذا السؤال فإننا يجب أن نفرق هنا بين تعلم الطفل لغة أولى، وبين تعلم الكبير لغة ثانية.

فالمشاهد أن الإنسان البالغ العاقل عندما يبدأ بتعلم أي لغة ثانية فإنه يستند قطعا إلى المعلومات السابقة التي لديه من لغته الأم أي يتعلمها بواسطة الفكر والعقل، ويستند في تعلم اللغة الجديدة إلى قواعد وأسس لغته الأولى أو ما يسمى باللغة الأم التي شكلت تفكيره وبرمجته، والتي هي أساس ووعاء فكره وتصوره للمعاني. فإذا ذكرت أمامه كلمة باللغة الجديدة فإنه يفهمها حين تترجم له بأن تقرن بكلمة يعرف معناها في لغته الأم، ثم يقوم بربط المعنى من لغته بالكلمة الجديدة وفق ما يتصوره من معنى محدد لها في لغته الأم إلى اللغة الجديدة. وقد يكون المعنى قريبا ولكنه لا ينطبق تمام الانطباق، لذلك فإننا نلاحظ أن غالب من يتعلم أية لغة بعد سن البلوغ فإنه لا يمكن أن يتقنها بشكل تام كأهلها مهما بذل من عناية، لأن اللغة الأولى هي التي شكلت تفكير الإنسان من الأساس ابتداء وبها يتصور المعاني الذهنية. وبسبب وجود الاختلاف بين اللغات في التعبير عن المعاني الذهنية، فإن الترجمة مهما سمت لا تستطيع التعبير بدقة عن نفس المعاني في اللغات المختلفة، ولذلك كانت ترجمة القرآن لفظا ومعنى عملا مستحيلا.

أما كيف يتعلم الطفل الصغير اللغة الأولى وهل يحتاج إلى معلومات سابقة ليتعلم هذه اللغة؟
أن الطفل يولد ابتداء خاليا من أي علم أو أية معلومات سابقة لذلك لا يستطيع التفكير وإن امتلك الدماغ الذي فيه صلاحية بدائية للربط لأن الدماغ يكون حينئذ غير مكتمل، وحتى يستطيع أن يكون قادرا على التفكير فهو بحاجة إلى تلقي وتعلم المعلومات السابقة من غيره بواسطة اللغة، فاللغة شرط في التلقي والتعلم حتى يستطيع أن يفكر، وهذا الطفل لو كبرت سنه وبلغ عشرين سنة، ولم يأخذ أية معلومات، فإنه يبقى كأول يوم، يحس بالأشياء فقط ولا يدركها مهما كبر دماغه ولكن إذا أعطيناه اسم كل منها تجاه واقعه، أو تجاه صورة الواقع، وربطناه بها فإنه يصبح قادرا على التفكير، فكيف يتعلم الطفل اللغة إذن؟

إن دماغ الإنسان فيه خاصية ربط المعلومات واسترجاع الإحساس. فيمكن للإنسان في ما يتعلق بالغرائز بتكرار الإحساس أن يسترجع الإحساس، ويمكنه بخاصية الربط أن يُكوّن من مجموع ما يحسه وما يسترجعه من إحساسات، معلومات، وأن يسترجع هذه الإحساسات بمعلوماتها فيما يتعلق بالغرائز والحاجات العضوية فقط وهو يشبه في هذا العمر الحيوان، لكن دماغ الحيوان لا توجد فيه خاصية ربط المعلومات، وإنّما عنده تذكّر الإحساس والتمييز الغريزي. فأنت إذا ضربتَ الجرس وأطمعت الكلب عند ضرب الجرس، فإنه إذا تكرر ذلك يفهم الكلب إذا قُرع الجرس أن الأكل آتٍ ولذلك يسيل لعابه، أمّا ما لا يتعلق بالغريزة فلا يمكن أن يقوم به الحيوان طبيعياً إذا أحسه، ولكن إذا كُرر هذا الإحساس واسترجعه فإنه يمكن أن يقوم به تقليداً ومحاكاة وليس قياماً طبيعياً.

والمشترك بين دماغ الحيوان والإنسان هو وجود بعض "قوانين عمليات الدماغ" التي يستطيع باستخدامها أن يقوم ببعض العمليات الذهنية بدون الحاجة إلى المعلومات السابقة خصوصا فيما يتعلق بإشباع الغرائز والحاجات العضوية، ويستطيع الحيوان بهذه القوانين الربط بين إحساسه بحصول حدث معين كقرع الجرس بالتزامن أو التتابع مع حدث آخر كحضور الأكل إذا تكرر، أن يقرن الدماغ إحساسه بالحدثين ويخزن ذلك في ذاكرته ويستطيع أن يسترجع الدماغ إحساسه السابق بالحدث الثاني الأكل إذا أحس بالحدث الأول قرع الجرس، وهذا هو الاسترجاع. أما دماغ الطفل فهو أقدر من دماغ الحيوان على لأن فيه بجانب القدرة على استرجاع الإحساس بشيء إذا اقترن بشيء آخر القدرة على الربط.

والفرق بين التفكير والتمييز الغريزي يكون في أن التمييز الغريزي عند الحيوان والإنسان يقتصر استخدام الدماغ فيه على بعض "قوانين عمليات الدماغ" والتي هي مفطورة في هذا الدماغ ومنها القدرة على تخزين الإحساس في الدماغ واسترجاعه، في حين أن التفكير في الدماغ الصالح للربط عند الإنسان يستخدم بجانب قوانين الإدراك الشعوري جميع "قوانين التفكير" وخصوصا قدرته على تكوين النماذج الفكرية أي المعلومات السابقة وتذكرها والربط بينها وبين الواقع المحسوس والحكم على الواقع من خلال تحليله إلى أجزائه والتي لها معلومات سابقة في الدماغ ثم ربطها وتركيب أجزائها من جديد وتكوين نموذج ذي معنى في الذاكرة.

لذلك يعتبر الأساس في تعلم اللغة الأولى عند الأطفال هو الربط الاسترجاعي بين اقتران إحساسه بشيء ما وتكرر ذلك مع إحساسه بالشيء الآخر. فيستطيع دماغ الطفل تعلم اللغة من خلال الربط بين صوت الأم والإحساس بحصول حدث معين. فبسماع أصوات الناس الذين حوله واقتران الصوت أي الكلمة أو الجملة المعينة مع شيء أو حادثة يحس بها بالتزامن مع الكلام، وبتكرار سماعه نفس الكلام المقترن مع نفس الإحساس يربط في دماغه الشيء أو الحدث مع الكلام. وهكذا يبدأ الربط اللغوي بين الصوت والحدث لدى الطفل ويصبح قادرا بنفسه مع الزمن على استرجاع الأصوات أو تذكر الكلام والأسماء التي تقال بمناسبة الحدث الذي أحس به أي المسميات.

وبمشاهدة وتتبع تعلم الأطفال للغات نجد أن هناك تدرجا في تعلم اللغة تبدأ عندما يصل عمره إلى أكثر من سنة بقليل حيث يبدأ بلفظ بعض الكلمات ثم في عمر سنتين فأكثر يصبح قادرا على تركيب بعض الجمل البسيطة ومن ثم تتطور قدرته مع كبر سنه. فاللغات في الأساس سماعية ويتعلم الطفل اللغة من السماع ليس ككلمات منفردة بل يتعلم الجمل المفيدة كاملة. وتعلم الأطفال للغة ليست قضية ذكاء لأن المتخلفين عقليا يتعلمون اللغة مع فقدانهم لقدر كبير من الذكاء. ويلاحظ أن تعلم الطفل لغة أبويه ومن حوله يحصل بإتقان تام بعكس الكبير الذي يتعلم لغة ثانية.

لذلك فتعلم اللغة الأولى عند الأطفال لا يحتاج إلى معلومات سابقة ابتداء، لأنها جزء من عمل الدماغ بواسطة الربط الاسترجاعي. وبعد تحصيل الطفل لثروة لغوية كافية بالربط بين الأسماء ومعانيها أي مسمياتها، يصبح مالكا للوسيلة اللازمة لتلقي المعلومات السابقة بحيث يستطيع بواسطة اللغة من تركيب معاني معينة مما يتلقاه ويتعلمه ممن حوله أي تكوين نماذج فكرية جاهزة يعرفها الدماغ نسميها المعلومات السابقة وبالتالي تتم عملية تشكيل وبرمجة فكر الطفل بواسطة اللغة.
والله تعالى أعلى وأعلم                  
تم نشر هذا الموضوع في منتدى العقاب بتاريخ 12/2005  والرابط كالتالي
http://www.alokab.com/forums/index.php?showtopic=7087&st=20

الاثنين، 6 أغسطس 2012

معالم في تفسير القران الكريم - قصة سليمان عليه السلام


معالم في تفسير القران الكريم

حلقات بحث نقاشية مختارة

هدف النقاش:



تفسير القصص القراني: قصة النبي سليمان عليه السلام انموذجا

انه ومن المسلم به، وحسب القران نفسه، فان القصص والاخبار انما هي للعبرة والموعظة وتثبيت النفس على طريق حمل الدعوة الشاق والطويل الذي لا ينهيه الا انتهاء الاجل. الا انه يمكن تثبيت جملة قواعد لا غنى عنها لاي مهتم بتدبر القران الكريم يمكن تسميتها بالقواعد الذهبية لتفسير النص القراني.



القواعد الذهبية لتفسير القصص القراني



اولا: تحديد الاطار العام للقصة

وبالتدقيق في قصة النبي والملك سليمان نجد النقاط التالية التي تحدد الاطار العام للقصة ومراد الله منها:

  1. ان القصة هي لاخذ العبرة والعظة لكل صاحب جاه او سلطان او ملك.
  2. ان القصة تعرض وسيلة حمل الدعوة تركيزا على القوة والطلب.
  3. التركيز على ضرورة قيام كل من ملكه الله ارضا (نبيا كان ام ملكا ام خليفة) بتسخير كل الامكانيات المتاحة بين يديه للجهاد وادخال الناس في الاسلام وتوسيع ملكه لمن حوله بما يحمل من بيان لكيفية حمل الرسالة والنبوة للامم والشعوب الاخرى بهذه الكيفية وهي للمسلمين من باب اولى وهو ما ينبغي بحثه بالنسبة للانبياء والرسل السابقين. وتجدر الاشارة الى ان ملك سليمان عليه السلام كان بالاساس في الارض المباركة والتي تحدد جغرافيا بين الشام الا انه راح يوسع ملكه الى اليمن حتى بات ملكه يضم ما بين الشام واليمن بشكل مرجح.
  4. تعرض القصة وسيلة الحكم الصالح ووسيلة القتال من اجل دعوة الرسل.



ثانيا: ضرورة وجوب النظر الى الكليات والسياق والاطار العام الذي يجري تحديده ثم ربط ذلك كله حتميا ووجوبيا مع التفاصيل الواردة في القصة او الخبر. وهذا يتضمن:

1.      استمرار ربط القصة بتسخير النبي او الملك او الخليفة بتسخير ما ملكه الله لحمل الرسالة.

2.      عدم ازعاج النفس بالجزئيات وتلمس الاسرائيليات في التفسير او الابحاث الجغرافية او العلمية لان هذا يخرج عن مراد الله كالنقاش في مسألة اسم النملة وغياب الهدد وعقوبة الهدد .

3.      الاستناد فقط الى الاحاديث الشريفة الصحيحة والاخبار الصحيحة في المسائل الجزئية على وجه التحديد والتخصيص وعدم الاكتراث بما سواها.



ثالثا: التقاط واستنباط وتعيين النماذج العامة المفيدة للمسلمين في عصرهم الحالي من وراء كل قصة وايضا وضع الاصبع على قضايا ذات جدوى للنقاش وردت او اوحت اليها القصة مثل:

1.      تلخيص ان القران الكريم من وراء سرد قصة سليمان عليه السلام يقدم نموذجا للحاكم المسلم بتسخير هذا الملك والقوة في سبيل حمل الدعوة للغير حيث قصة مع بلقيس مثال عظيم لتأكيد ذلك.

2.      ان حمل الرسالة والدعوة يكون بالطلب والمبادأة والقتال.

3.      من القضايا التي تبرز لمزيد من التوضيح والنقاش من خلال القصة قيد البحث ما يلي:

·         هل سيدنا سليمان نبي او رسول والفرق بينها.

·         هل كلف سليمان بحمل دعوته لغير بني اسرائيل وكيف تفسر مسألة الواقعة مع بلقيس.

·         كيف توصل الهدد الى وجود الله من خلال رؤيته ومشاهدته لاهل سبأ وملكتهم اللذين يسجدون للشمس من دون الله.

·         استكشاف اسباب النصر وهي: اسباب الدنيا المادية (الامكانيات والقوى)، والمعنوية (وجود الفكرة الصائبة او تقلبات الطقس ونحوهما).

·         منطق الفطرة عند الطيور باستهجان وجود ملك (امرأة) لان الفطرة السليمة تنحو الى ان الملك يجب ان يكون ذكرا.

رابعا: تحديد فيما اذا كان السياق اهم ام التركيب اهم او اللفظ الواحد اهم في كل واحدة من الايات قيد البحث مثل:

  • مراجعة وتحديد وبناء المفهوم لالفاظ مثل: النبأ والعرش وتكلم النملة والحكم فيما اذا كانت اللفظة هي الاهم التي يجدر التركيز عليها ام ان السياق هو الاهم ام التركيب هو الاهم.

خامسا: الارتقاء بالتفكير في النص القراني وتطبيق مفهوم التدبر والذي يعني البحث باستمرار في العواقب والنتائج، والاسباب ومسبباتها لالتقاط العبرة والتي هي سنن الحياة وقوانين الاجتماع البشري التي لا تتخلف الا بمعجزة.

كما وان التفكير انواع: سطحي وعميق ومستنير، فان رديف تلك التصنيفات والعامل الموضوعي لتفكير الناس بالنصوص له ايضا ثلاث مستويات:

  • السطحي ويقابله الحديث عن الاشخاص وشخصنة الحديث والنقاش : ومن يقع في هذا المنزلق فانه لا ينظر مثلا الى الحالكم بوصفه حاكما وانما ينظر اليه ويقيمه بوصفه الشخصي وعلاقته الشخصية.
  • العميق ويقابله التركيز على الاشياء كان يتم التركيز وحصر النقاش في  الشوارع والسيارات.
  • المستنير ويقابله التركيز على الافكار والعموميات وربط الاسباب بمسبباتها واخذ العبر.



ان العبرة يمكن تعريفها بانها السنة والقانون الذي ينتج من خلال عملية الربط بين السبب والنتيجة. فالربط بين النتيجة والعاقبة وبين مقدماتها اقصد اسبابها ان هذا الرابط هو العبرة او السنة او القانون بما يعني ضرورة التركيز على دلالات التراكيب في النص القراني وليس دلالة الافاظ وحدها.





سادسا: مراجعة التفاسير المختلفة والتدقيق في منهجها طبقا للقواعد التي جرى تحديدها والاستناد الى اسباب النزول وكتب اللغة.



تمثل القواعد الخمس السابقة المنتهي من بيانها للتو المفاتيح التي بدونها يضطرب الفهم ويتجه الى مربعات لا اهمية ترجى من وراء اثارتها سوى اضاعة الوقت ناهيك عن اثارة قضايا لا يمكن اقفالها ولا البت فيها.



خطوط عريضة في التفسير

نقاش اولي واثارة قضايا بحاجة للتعمق

  • في مدلول لفظ "النبي"

الاصل هو الانباء، و النبأ هو (التحدث) للناس و(اخبارهم) عن امور وقضايا مستقبلية وعما سيأتيهم في قادم الايام يوم القيامة بالاستناد على تتبع كلمة الانباء في ايات القران الكريم حيث تكاد تتنجه الى التركيز على اخبار الغيب. و (النبي) هو الشخص الذي يأتي بخبر غائب عن الناس في الحاضر او المستقبل. ويمكن القول بان تعريف (النبأ) : خبر مغيب عن الناس غاب في الحاضر او لا يعلمونه مستقبلا.

التوصية: بحث مدلول لفظي: (النبأ) و (الخبر) وتعلقهما بالماضي او الحاضر او المستقبل من خلال تتبع ايات القران الكريم واحاديث النبي صلى الله عليه واله ومن الشعر الجاهلي.

  • المحكم والمتشابه

"فيه ايات محكمات هن ام الكتاب واخر متشابهات، فالذين في قلوبهم مرض يتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، ولا يعلم تأويله الا الله والراسخون في العلم"

يوجد فهم بحاجة للمراجعة حول مفهوم المحكم والمتشابه اذا يشاع ان المحكم هو قطعي الدلالة والمتشابه هو ظني الدلالة طبقا للاية. وبالتدقيق نجد ان هذا اطلاق للحكم على غير بصيرة اذا يمكن ربط المتشابه بانه كل امر غيبي ظني الدلالة، فالمتشابه هو: الغيب ظني الدلالة غير المقطوع لانه لا يمكن اثباته في الواقع وقد لا يتم اثباته بتحققه ورؤيته في الواقع. لذلك التدقيق في سياق الاية يبرهن ربط المتشابه بـ "الفتنة"  والتي هي صد الناس عن الدين من خلال التشكيك في معنى الايات خاصة تلك التي تتعلق بالغيب، فيقومون باثارة قضية تتصل بالغيب لان طبيعة القضايا الغيبية لا يمكن التحقق منها لانها بكل بساطة تندرج في الماورائيات.



وهنا تدخل لفظة اخرى على الموضوع وهي لفظ: "التأويل" والتي نستطيع تحديد مضمونها ومعناها طبقا للاستخدام القراني بتعريف التأويل بانه: تحقق الرؤية المستقبلية الغيبية في الواقع مع ظهور اثباتها وبرهنتها، فالتأويل هو النتيجة، وهو العاقبة، وهو نتيجة التدبر، والذي يعني دبر الشيء اي اخره ومنتهاه اي نتيجته. والمتشابه بهذا المعنى لا يمكن اثباته في الواقع فيحصل اللبس والفتنة والصد عن الدين دون القدرة من التحقق منه لان موضوع المتشابه هو الغيب مثل "يد الله" وسمعه وسائر صفاته واسمائه وعرشه. فلا يمكن التحقق منه لانه لا يمكن اثباته في الواقع بل لا يمكن ترجيح احد طرفيه المتعارضين لانها تتضمن امرا غيبيا. اما الحقيقة التي عليها الامر الغيبي فلا احد يعلمها الا الله. لذلك، فان معنى التأويل هو: كل اخبار عن امر مستقبلي.



والخلاصة هي انه رغم معرفة البشر معنى المتشابه الا ان تأويله لا يمكن معرفته الا من الله تعالى بسبب السمة الغيبية. التوصية هي هنا في ضرورة افراد بحث لتفسير الاية الكريمة مع استعراض معنى المحكم والمتشابه الواردة في القران.



تفسير قصة سليمان عليه السلام



لا بد باستمرار من مراجعة اسباب نزول السور والايات لان لها اضافة غنية وتوجيه هام في ادراك مراد الله من ايات القران وبما يجب اعتباره قاعدة حاسمة ومهمة. وبالرجوع الى كتاب ابو بكر الرازي، فانه يفيد بان ثلاث سور نزلت دفعة واحدة هي: الشعراء والقصص (بفتح الصاد) والنمل (بتسكين الميم) وهي سور مكية.

الأربعاء، 1 أغسطس 2012

قصة المياه وقصة الحياة، الغائية والسببية، تلاحم أم انفصام ؟

قصة المياه وقصة الحياة

الغائية والسببية، تلاحم أم انفصام ؟


تعقيبا على مقالة لأحد المفكرين الذي ينكر وجود العلة الغائية في الوجود أي يجعل تصرفات الأشياء وسلوكها تجري دون تخطيط فكري مسبق.

وبهذه المناسبة -وردا على إنكار فكرة الغائية- فأود أن اسرد على حضراتكم القصة التالية:

مر رجل بأرض موات فوجد بقربها نبعا من الماء فحدثته نفسه بأن يقوم بإحياء هذه الأرض فعزم أن يزرعها ويسقيها بهذا الماء المتدفق الجاري، وكان أن فعل فقام باستغلال الماء لسقي مزروعاته في تلك الأرض وأخذت الحياة تدب فيها بعد أن كانت مواتا بورا.

مرت أيام وأيام إلى أن مر بهذا الرجل جار قريب، فسلم عليه متعرفا سائلا إياه ماذا ينوي أن يفعل بهذه الأرض، فأجابه الرجل بما يدور في رأسه من خطط مستقبلية من زراعة للأشجار والمحاصيل والخضار والفواكه مستبشرا بما سيجني من أرباح بعد حصادها. فسأله ذلك الجار عن مصدر المياه فقال له: أنه نبع ماء وجده بقرب الأرض، فابدي الجار استغرابه وصحبه لرؤية ذلك النبع، فلما وصلا فإذا هما بماء يخرج من باطن الأرض ويتدفق ويشق طريقه مشكلا مجرى خاصا به كما يشكل النهر مجراه.

استدرك الجار قائلا ولكنني أعيش في هذا الجزء من البلدة منذ سنين عديدة، ولم تلحظ عيناي وجود نبع للماء فيها، فلربما هناك سبب يفسر وجود هذا الماء، وقد أخذ الفكر بالجار لتذكر قيام البلدية بتنفيذ مشروعا للماء في تلك المنطقة قبل بضعة سنين، وقد يكون هذا الماء ليس بنبع بل إنه ماء متدفق من أنبوب مدفون في باطن الأرض، فطلب من الرجل حفر الأرض ليكتشف بنفسه مصدر الماء.

قام الرجل بالحفر فوجد أن الماء يتدفق فعلا من أنبوب من جوف هذه الأرض، فطلب منه جاره أن يذهب للبلدية فيطلب منهم أن يمدوه بوصلة رسمية وعداد للمياه مقابل أن يدفع ثمن من يستهلكه من كمية. فما كان من الرجل إلا أن رفض ذلك بحجة أن هذا الماء ليس ملكا للبلدية وأن له الحق في استغلاله ما دام يخرج طبيعيا من الأرض وينزل طبيعيا من السماء الدنيا، مضمرا في نفسه -لقصر نظره- أن لا يدفع ثمن شيء يأتي إليه الآن مجانا بلا ثمن، فلماذا يكلف نفسه تكاليف وأعباء وأثمانا هو في غنى عنها.

أخبره الجار بأن هناك لجنة صيانة بلدية تفحص الشبكات دوريا كل فترة، وأنهم إذا اكتشفوا أمرة فيحاسب وسيعاقب على فعلته ومن ثم سيدفع الثمن مضاعفا. أخذت الرجل العزة بالإثم وأخذ يعاند الجار ويصد عن نفسه بحجج علمية، ويحاول أن يقنع الجار بأن الماء يخرج طبيعيا وعشوائيا من أرضه وليس لأحد فضل عليه، وأن هذا الماء الخارج من الأنبوب ليس ملكا لأحد ولا غاية لأحد في دفن أنبوب تحت الثرى، بل هو موجود هكذا وفق قوانين الفيزيائية والكيميائية للطبيعة التي تتفاعل فيما بينها لتشكل عناصرها ومنها الماء ثم يجري هذا الماء عبر الصخور والتربة ثم يخرج من مناطق الشقوق الأرضية وفق علوم الأرض والجيولوجيا ودورة المياه الطبيعية المعروفة.

قال له جاره: يا صاحبي ولكن هذا الماء ليس ماء الطبيعة المملوك ملكية عامة لكل الناس ينتفعون منه، بل هذا ماء له خصوصية يسير في نظام أنجزته البلدية بهدف أن تمد الناس بالماء للشرب لسد حاجاتهم، وأنه باستطاعته أن يريه بنفسه هذا النظام المائي التابع للبلدة، وكيف أنه نظام وجد من قبل جهة منظمة حكيمة تدرس وتخطط وتنفَّذ وتستثمر الأموال وتستقدم مهندسين خبراء في هذا المجال يعرفون قوانين الماء والجيولوجيا ويستخدمون هذه القوانين لغاية وهدف فليس الأمر عشواء وهناك فرق تسهر على تشغيل وصيانة هذا النظام المائي.

وإثر هذا الجدال فقد اتفقا -من أجل أن يقنع أحدهما صاحبه- بأن يقوما بزيارة للنظام المائي ابتداء من نقطة خروج الماء، فسارا مشيا على الأقدام، وأخذ الجار يشرح له أن هذا الأنبوب جزء من نظام شبكة المياه وهو يتفرع من خط أكبر منه تحت الطريق الرئيسي، فأخذ يعاند ويقول ولكني لماذا لا يكون وجوده وضعا طبيعيا بفعل قوانين الفيزياء التي فعلت فعلها خلال عشرات الآلاف من السنين قبل أن يوجد بشر في هذه البلدة.

ثم مضيا ووصلا إلى خزان الماء الذي يعلو الجبل ويزود البلدة جميعها بالمياه، فقال له الجار: هذا الخزان الذي تراه خطط وبني لهدف وهو أن يكون قادرا على حفظ الماء اللازم لسقاية جميع سكان البلدة لمدة يوم ونصف، فأخذ الرجل يبتسم وينظر إلى صاحبه وإلى خزان المياه ويقول: هذا الخزان مكون من خرسانة وهو موجود بالاعتماد على عناصر الطبيعة والآليات التي تتفاعل بها تلك الطبيعة تماما مثل تكوين الصخور في طبقات الأرض كالصخور الرسوبية والصخور المتحولة بفعل عوامل طبيعية تماما.

فرد عليه جاره قائلا: ولكن يا صديقي هذا غير صحيح، انظر إلى نظام الخزان لا يمكن أن يوجد طبيعيا بهذا الشكل وهذا النظام المتناسق والحجم الملائم لاستهلاك أهل البلدة ثم انظر إلى الأنبوب الذي يقوم بملء الخزان وكذا الأنبوب الرئيسي الخارج منه وكيف يصل الماء إلى منسوب معين لا يتعداه داخل الخزان كل هذا لا بد له من فاعل وفعل منظم وترتيب وتنسيق مخطط له وغائي، قال وكيف تثبت ذلك؟ قال: تعال أريك العوامة التي تطفو على سطح الماء داخل الخزان حيث يصل منسوب الماء داخل الخزان إلى قدر معلوم فتعمل العوامة على وقف تدفق هذا الماء، فرفض الرجل هذا التفسير الغائي للموضوع وقال له: سآتيك بتفسير علمي لذلك. فقال له جاره: قل، أسمَع.

فقال الرجل: يا سيدي هذا الأمر ينبع من جوهر آلية التكيف الكائنة في ذات وصميم البنية، فقال له الجار: اشرح أكثر من فضلك؟ فقال: هذه تسمى علميا دارات تفاعلات مصححة للبنيات، وهي تقوم بعملها نتيجة التطور، فهي بدأت أولا بشكل مسيرة عشوائية ثم أخذت بالتعقيد ببطء شديد عبر آلاف السنين التي لا يمكن أن تتصورها، ومن خلال آلية التوجيه والتكيف وصلنا إلى هذه الدرجة التي تراها من التطور. وآلية التوجيه العلمية تأتي من صميم البنية، وحين كانت تحدث التحولات والتغيرات الطبيعية عبر السنين كانت هناك آلية التوجيه بالاعتماد على التغذية العكسية التصحيحية التي نشأت من صميم البنية أو بواسطة التكيف عبر منهج المحاولة والخطأ حتى وصلنا إلى ما تراه من تكيف ثابت ومتوازن تماما. فكل الأمر يا سيدي متعلق بالدارات التفاعلية المصححة للبنيات للتوافق مع الأوضاع والظروف المتغيرة والتي تستغرق عشرات الآلاف من السنين.

قال له الجار: إذن تعال معي وأريني كيف تفسر باقي أجزاء هذا النظام المائي، فذهبا حتى وصلا إلى سد الماء القريب من البلدة، فقال له: هذا هو مصدر الماء الرئيسي وهنا تم بناء السد لحجز وتخزين المياه لهدف وغاية وهي تجميع الماء وخزنه خلال فترة تساقط الأمطار ليسد حاجة الناس إليه أثناء فترة الجفاف. فقال له الجار: قل لي بالله عليك كيف تفسر ذلك علميا كما تدعي؟ فرد قائلا: إن التفسير العلمي لذلك هو أن المطر ينزل طبيعيا وفق قوانين فيزيائية من الغيوم ليهبط على الجبال والأودية، وهناك علم الأرصاد الجوية والهيدرولوجيا ونستطيع بهذه العلوم تفسير ذلك ونستطيع معرفة كمية الأمطار المتوقعة وكمية المياه الجارية في كل وادي بمعرفة مساحة المنطقة المغذية له ومعدل التساقط للأمطار ومعامل الجريان للمياه في المنطقة، فتحسب الكمية التي يمكن تخزينها في هذا الوادي.

فسأله الجار: ولكنك لم تفسر سبب احتجاز الماء خلف هذا السد، فأجاب قائلا: إن هذا السد مكون من عناصر الطبيعة من تراب وصخور وقد تشكلت بفعل عوامل التعرية والترسيب ربما عبر آلاف السنين، فلا تندهش –حسب علم الجيولوجيا-إذا أخبرتك أن جبالا قد زالت وأخرى قد ارتفعت بفعل عوامل باطنية في بنية طبقات الأرض كالضغط والحرارة. وهذا السد الذي تراه ما دام موجودا وما دمنا نستطيع تفسير وجوده بالاعتماد على العلم فلا حاجة بنا إلى القول بالغائية.

وأضاف: الغائية ليست تفسيرا علميا وإنما يلجأ إليها ضعفاء العقول والتفكير حين لا يستطيعون تفسير الظواهر الطبيعية بالاعتماد على الأسباب فيلجأون إلى التفسير الغيبي غير المنطقي، وما يعتقد أنه غائية ما هو في الحقيقة سوى نتيجة حتمية لمجموعة من الأسباب، والحديث في العلوم الطبيعية غير الحديث في العلوم الإنسانية، في الطبيعة لا نتحدث عن غايات بل أسباب و نتائج و لا دليل على الغايات، أما في العلوم الإنسانية فيمكن أن نتحدث عن الغايات. فالسببية عندما تستطيع تفسير الظواهر لا تبقى حاجة إلى التفسير الغائي لأنه بفضل الأسباب تستطيع تفسير كافة أشكال البنيات ودارات التفاعل.
فكر الجار قليلا ثم قال في نفسه لأمضي بهذا المعاند المتمنطق إلى ما لا يمكنه العناد بشأنه، فقال له: اتبعني، قال إلى أين؟ قال إلى شيء لو استطعت أن تفسره علميا بنفي الغائية فستكون عبقري زمانك. فذهب به ووصلا إلى غرفة يخرج منها صوت مضخات المياه، فقال له ادخل فدخلا فإذا بهما أمام مضخات ضخمة تعمل بواسطة محرك يدور فيدير معه حركة المضخات المائية ليرفع الماء من السد إلى الخزان الموجود لأعلى الجبل. فقال له فسر لي الآن هذا النظام بدون الاعتماد على الغائية؟

فقال الرجل: نعم هذه المضخات تدور بفعل حركة وعزم دوران المحركات الميكانيكية بالاعتماد على قوانين الهيدروليك للأنابيب المضغوطة فتدفع الماء عبر هذه الأنابيب بضغط عال فيصل الماء إلى ذلك الخزان الذي رأيناه أعلى الجبل، فما الغرابة في كل ذلك! أنه يجري ضمن التفسير السببي وليس الغائي كم أخبرتك من قبل.

وهنا لجأ الجار إلى الحيلة بعد أن فشل في إقناعه بضرورة وجود حكمة وعقل مدبر وراء كل هذا النظام والإبداع وذلك التناسق الموجود في هذا النظام ليؤدي وظيفة وغاية أرادها الشخص الذي برمج هذا النظام وأنشأه وهي تزويد سكان البلدة بالمياه. فقام الجار بقفل مفتاح تشغيل المحركات وكذا مفتاح لوحات التحكم أو دارات التفاعل فتوقفت المضخات عن الدوران على الفور، وعاد الماء الصاعد إلى الخزان عبر الأنبوب راجعا القهقرى إلى المضخات، فتدفقت المياه من فتحة خاصة بتفريغ الماء الزائد، ثم توجه إليه قائلا يا هذا: قل لهذه المضخات أن تدور تلآن طبيعيا حسب نظام الدارات والقوانين الفيزيائية والكيمائية ولو شئت -حسب ما تدعي - استخدم القوانين النووية.

فقال الرجل: ولكن هذا مستحيل! قال له: آه مستحيل الآن، ولماذا؟ قال: لأننا بحاجة إلى دوران المحركات، فقال له: ومن يدير هذه المحركات؟ قال: تلك الطاقة الكهربائية المتولدة من مولد الديزل. فحاول الرجل أن يعيد تشغيل المولد والمضخات ففشل لأن النظام قد تم توقيفه من لوحات التحكم، فرد عليه جاره قائلا أرأيت! هذا النظام بحاجة إلى العقل المشغل الذي يتحكم فيه وبحاجة إلى من يعطي الأمر للمولد وللمضخات أن تعمل؟ فسكت الرجل ولم ينبس ببنت شفه!
فتوجه إليه مخاطبا قائلا أجبني الآن وقل هي أيضا تلك الدارات أو لوحات التحكم فما بالها لا تعمل، إلا تحت إشراف ذلك المشغِّل أو العامل الذي يدير المولد ويزوده بالديزل، وقل لي أن النظام بحاجة إلى من يتابع عمل المضخات والمحركات و قل لي لأن النظام لا يمكن أن يعمل بشكل متناسق إلا من خلال برنامج موجود في لوحات التحكم التي قامت الشركة الفلانية ببرمجتها وتتحكم في جميع هذا النظام، لينتج لدينا نظاما متناسقا منسجما فيؤدي دوره الذي أنيط به وليحقق الغاية التي وجد النظام من أجلها.

وخلص معه إلى القول: يا هذا أنت رأيت الأسباب وأنكرت أن وراء الأسباب غاية تدفعها إلى تحقيق وظيفة معينة، يا هذا إن الأسباب تدفع الحدث من الخلف والغايات تجر الهدف إلى الأمام، يا هذا إن الغرض الذي كان موجودا في ذهن مَن صنعوا هذا النظام ولا يلزم من هذا الغرض أن يكون موجودا داخل المضخات نفسها حتى نؤمن به، يا هذا إن الإنسان يستخدم العلم ويكتشف قوانينه ليحقق غاياته، وإن نظام الأسباب لا يمكن أن يعمل وحده دون وجود الطاقة الدافعة التي يولدها الإنسان من مصادرها، يا هذا كيف تستسيغ أن يقبل عقلك أن هذه المضخات ولوحات التحكم هذه المبرمجة للنظام قد نشأت دون تخطيط ثم تشكلت دارات التفاعل المصححة وتلك البنيات المستقرة وحدها ثم تطورت خلال آلاف السنين عبر آلية التكيف والتوجيه بالاعتماد على التغذية العكسية التصحيحية التي هي أهم خصائص العقل الواعي والغائي والحكيم. أتفسيرك هذا أصوب أم تفسيري؟ أبعد هذا لك حجة؟

ولى الرجل دبره ولم يعقب فلما وصل أرضه فإذا برجال قسم الصيانة من البلدية قد سبقوه هناك ليخبروه أنه مخالف لقانون البلدية، وأنه يجب أن يدفع غرامة ما استهلك من مياه خلال الفترة الماضية، ذلك أن لديهم عدادا للمياه مركب على بعد مسافة قريبة وحيث لا يوجد مستهلك في تلك المنطقة الخالية سواه، فكل قراءة العداد هي مما كسبت يداه، فقال: واحسرتاه، جاء وقت الحساب الذي كنت اهرب منه، لم احسب أنني سألاقي هذا في مقتبل زماني، ولات حين مندم!!!

فانظر يرحمك الله إلى نهاية وعاقبة هذا المتشدق بالعلم الذي يحاول تفسير كل شيء بالاعتماد فقط على العلم والأسباب دون النظر إلى الغايات التي تدفع تلك الأسباب.

قصة المياه هذه تشابه قصة الحياة وقصتنا نحن البشر على ظهرها، إن الأسباب في هذه الحياة لا تعارض الغايات بل تكملها، ولا يتشكل النظام من العشواء بل الغايات بحاجة إلى أسباب ولا تتحقق الغايات بغير أسبابها، فهما كجناحي الطائر لا يطير إلا بكليهما.

إن كل أنظمة الوجود وراءها منظِّم ومبرمِج وهي ليست عبثا ولم تنشأ ولم تتشكل عشوائيا. وإنما هناك موجِد ومنظِّم لكل أنظمة الوجود وهذا هو سبب وجود الانسجام والتناغم والعناية والحكمة بين مختلف مكونات الأشياء، وهي التي تنشئ الدارات التفاعلية اللازمة وتجعل البنيات مستقرة، وتعمل لخدمة الإنسان وهي مسخَّرة له ليؤدي الغاية والوظيفة التي خلق من أجلها، ليكون مستخلفا لعمارة هذه الأرض وليعبد الله وحده ويسير في شؤونه حسب ما أمره الله، بإتباع ذلك النظام الإلهي المتناسق والمنسجم مع كافة أنظمة ونواميس وسنن الكون،

هذا النظام الصحيح الملائم لفطرة الإنسان، إنه النظام الذي أنزله على البشر من خلال الرسالة والنبي المرسل عليه الصلاة والسلام، وأن الحساب على الأعمال سيكون في اليوم الآخر وهناك دار الجزاء إما جنة الفردوس وإما عذاب النار.

ولمثل هذا فليعمل العاملون، وليذكر أولوا الألباب

والسلام عليكم

ملاحظة : تم نشر هذه القصة على منتدى العقاب بتاريخ 1/9/2007
والرابط: http://www.alokab.com/forums/index.php?showtopic=25537