الاثنين، 30 يوليو 2012

النظام اللغوي

النظام اللغوي:

أن ما تمر به أمتنا من تأخر عن ركب الأمم يدفع مفكريها للبحث عن حل لما هي فيه ليوصلها إلى النهضة, وبمعرفتنا بجوهر مشكلتها بأنه سوء الفهم للإسلام وأن أساس إنهاضها يجب أن يقوم على إحسان فهم الإسلام وينتج عنه إحسان تطبيقه. وكان من أحد أسس سوء الفهم للإسلام هو فصل الطاقة العربية عن الطاقة الإسلامية وبالتالي كان لا بد من مزج هاتين الطاقتين للوصول إلى النهضة، والطاقة العربية عي طاقة اللغة العربية كأداة في الفهم لما فيها من قدرة على التأثير والتوسع والانتشار.

واللغة العربية اللازم إحسان فهمها لها نظام خاص اصطلح عليه واضعوها وقت تنزل القرآن ذلك أننا نريد إحسان فهم النصوص الشرعية التي بين أيدينا بالكيفية التي فهم فيها العربي تلك النصوص وقت تنزلها وليس بعد مئات السنين ذلك أن اللغة تتغير وتتطور بفعل مؤثرات سببية كثيرة وهي سنة الله في خلقه بأن كل شيء خلقه ينفعل بفعل الأسباب المؤثرة فيه، لذلك فالنظر في اللغة العربية في وقت ما يتأثر بالنظام اللغوي للمتلقي في وقت تلقيه لأن اللغة في ذلك الوقت تكون قد تطورت بشكل معين يجعل فهم النصوص خاضعة للنظام اللغوي في حينه.

لذلك نقع في إشكالية لا مجال للخروج منها إذا حاولنا فهم نصوص معينة من نظام لغوي خارج النظام الذي كتب فيه تلك النصوص. وبالتالي كان لا بد من النظر في النصوص أيا كانت من منظور النظام اللغوي الذي كتبت فيه وعدم إقحام نظام آخر في الفهم والتفسير لتلك النصوص قد ينحرف بها إلى غير المقصود. ولذلك كان لا بد لنا لإحسان فهم اللغة العربية من النظر فيها من داخل النظام اللغوي الذي كان سائدا في عصر تنزل القرآن على العرب لأنه نزل بلسانهم، وكان لا بد من فهم النظام اللغوي أولا حتى ننتقل بعد ذلك لفهم النصوص الشرعية بلغتها العربية من داخل المنظومة اللغوية للعرب في تلك الحقبة.

إن النظام اللغوي لمجتمع ما في فترة ما يتميز بنظام للتعبير عن المعاني من خلال ألفاظ اللغة السائدة. والمقصود بالنظام اللغوي هو استخدام قوالب الجمل اللغوية أي التراكيب اللغوية للتعبير عن المعاني الفكرية التي في الذهن، فاللغة ليست مفردات متفرقة يجمع الشخص بينها كيفما يشاء بدون ضوابط بل إن ابن اللسان المعين يعبر عن المعاني الذهنية بطريقة محددة يتلقاها من صغره ممن حوله وبالتالي هو يستخدم الجمل والتراكيب اللغوية بذات الطريقة التي تلقاها والتي يستخدمها أبناء مجتمعه من حوله.

أما من يتعلم لغة ثانية بعد سن البلوغ فلا يمكنه أن يتقنها كأهلها، بل يستخدم في غالب الأحيان النظام اللغوي الذي أكتسبه في صغره ليعبر بألفاظ اللغة الجديدة عن المعاني الذهنية، لذلك تجد أبناء اللغة الأصليين يميزون مباشرة هذا الشخص بأنه من غير أبناء اللغة من خلال التراكيب التي يكون فيها الجمل، حتى ولو كان معنى الجمل التي يقولها صحيحا. وهذا ما حصل للغة العربية بعد دخول الأعاجم إليها حيث أخل هؤلاء بالتراكيب اللغوية وأدى إلى حصول ما يسمى بفساد اللسان العربي.

كذلك يستطيع أبناء لغة معينة تمييز أهل لغتهم من غيرهم من خلال نبرة اللغة أو الموسيقى اللغوية، فالمجتمع الذي يتكلم لغة معينة يعبر بجمل معينة باستخدام نبرة موسيقية محددة تتكرر في الكلام. فمثلا أبناء مصر يتميزون بلحن موسيقي معين فيناسبه كلام وتراكيب معينة تنسجم مع الموسيقى اللغوية التي تعودوا عليها فلا يستسيغون مثلا قول "كيف حالك؟" لا لأنهم لا يعرفون ذلك بل لأن تفعيلات هذا التركيب لا تنسجم مع الموسيقى اللغوية الدارجة لديهم. فتراهم يستخدمون بدل ذلك "إزايك؟" أما أهل الجزيرة العربية فلهم موسيقى أخرى تتميز بالنفس القصير وتسكين آخر الكلمات جميعها تقريبا، فلا تكاد تجد في لهجتهم الحالية ممن يتكلم الفصحى من يقوم باستخدام حركات أواخر الكلمات، وهذا بعكس أهل الشام تماما الذين يحركون أواخر الكلمات لانسجام ذلك مع موسيقى لغتهم الدارجة. أما أهل تونس مثلا فيقومون بتشديد أواخر الكلمات في الجمل حتى يسهل عليهم نطق الجمل وفق الموسيقى اللغوية الموجودة في لهجتهم العامية الدارجة. والذي أريد قوله هو أن لكل بيئة معينة نبرة معينة أو قل وزنا محددا للكلمات له تفعيلات معينة تتناسب مع ما تعودوا عليه في مجتمعهم، وهذا يظهر جليا أيضا في الأوزان الشعرية والأغاني المحلية التي تتلقاها الألسن.

كذلك يقوم كل مجتمع بتحريف بعض أحرف اللغة لتتناسب مع الموسيقى اللغوية، فيتم قلب حرف الذال إلى الزاي أو الظاء إلى ضاد أو الثاء إلى تاء أو سين والجيم إلى جيم حضرمية كما في مصر، ويتم قلب الضاد إلى ظاء والقاف إلى جيم حضرمية كما في نجد والحجاز، وهكذا. كذلك هناك تمايز في نفس المجتمع في الموسيقى والأحرف بين الناس الذين يسكنون المدن أو القرى أو البدو بحيث تختلف موسيقاهم ونبرتهم وتراكيبهم والأحرف التي يقلبونها في اللغة تبعا للبيئة التي يتفاعلون معها.

أما فيما يتعلق بالتراكيب اللغوية ففي مصر مثلا يضعون أحرف الاستفهام في الجمل الاستفهامية في أواخر الجمل بعكس الأصل الحقيقي في اللغة العربية، وفي الشام تستخدم أداة النفي ما مع الفعل ويضاف إلى آخره حرف الشين.

فالمشاهد من مقارنة تطور اللهجات المحلية في البقاع المختلفة للمجتمعات التي لها نفس اللغة الأصلية كاللغة الغربية مثلا، أن هناك في كل مجتمع يعيش في منطقة معينة، لغة دارجة لها قواعدها وتراكيبها وأولوياتها ونبرتها الموسيقية، وينفر عن التعبير عن المعاني من خلال أشكال معينة من الجمل والأحرف والتي تكون غير مألوفة لديهم من التراكيب اللغوية، وبالتالي فإن المشاهد أن لكل مجتمع نظام لغوي محدد يتميز به، أو قل لكل مجتمع سليقة خاصة به يتلقاها الشخص بدون دراسة أكاديمية لقواعد نحو وصرف وتراكيب وجمل بل إن كل إنسان يكرر الجمل التي تقال في مناسبات معينة وفق ما تلقاه من لغة مجتمعه، لأن اللغة سماعية وتوقيفية في الأساس وليست خاضعة للمنطق. بل إن إدخال المنطق إلى النظام اللغوي يفسده، بمعنى أن محاولة تفسير النظام اللغوي وفق علم المنطق يؤدي إلى إعطاء أحكام خاطئة ونتائج بعيدة عن الحقائق التي يقصدها المتكلم لأن المنطق يتعامل مع الكلمات المفردة ويحاول إقحام طريقته الخاصة في التركيب المنطقي للجمل بشكل قد يبتعد فيه في أحيان كثيرة عن مفهوم أهل اللغة وعن سليقتهم وطريقتهم في تركيب الجمل وموسيقاهم.

وبالتالي فإذا أدخلنا على النظام اللغوي ما ليس من جنسه أو حاولنا تفسيره بأدوات ليست تابعة له أدى ذلك إلى إرباك وخلط عند من يقحم ذلك في النظام اللغوي، بحيث لا تنسجم فيه الأشياء التي استنتجها مع أسس النظام اللغوي، ولنضرب مثلا لذلك في كيفية تعامل المتكلمين مع نصوص الشريعة في القرآن والسنة حيث حاولوا استخدام المنطق وعلم الكلام في تفسير آيات الصفات والقدر، وكيف أوقعوا المسلمين في إشكالات ما زالت آثارها ماثلة حتى اللحظة وكيف أضطرهم إدخال النظام المنطقي إلى اللغة العربية إلى التأويل في حين لم تثر هذه الآيات نفسها إشكالية لدى أهل اللغة الأقحاح من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين حتى جاء الإشكال بدخول الفلسفة اليونانية ونشأة علم الكلام، والسبب أن الأوائل فهموا تلك النصوص من داخل منظومة اللغة العربية نفسها التي يفهمون تراكيبها ومراميها بسليقتهم الخاصة التي تلقوها من مجتمعهم، أما المتكلمون فحاولوا استخدام أدوات تفسير من خارج سياق النظام اللغوي الذي نزل بلغة العرب فأدى ذلك إلى إشكالات وفتن عظيمة كفتنة خلق القرآن وصفات الله ونشوء الفرق العقائدية وتكفير بعضها البعض. ذلك أن علم الكلام له أولوياته وأسئلته وطريقة تركيب معينة للمنطق فيشكل عليه فهم بعض النصوص فيلجأ إلى محاولة تأويل ما لا ينسجم مع قواعده فيفسد فهم أصحابه لدلالات ومعاني اللغة العربية التي نزل بها القرآن.

والسبب في ذلك أنك تحاول تفسير نظام لغوي معين بأدوات ليست من جنسه، وأقصد هنا المنطق الأرسطي وما تفرع عنه من علم الكلام عند المسلمين. فالنظام اللغوي يجب أن يفهم من خلال ومن داخل نفس منظومته هو وبأدواته هو وليس بإقحام منظومة أخرى غريبة عنه لها أدواتها الخاصة في التحليل والتركيب والتفسير هي خارج سياق المنظومة اللغوية الأخرى. فالتعامل مع الاستعارات في اللغة العربية من قبل المتكلمين وفق أدوات المنطق الأرسطي أدى بهم إلى تحليل الاستعارة وتفكيكها واختزالها من سياقها اللغوي ودراستها بوصفها قضية منطقية دون النظر إلى الدلالات التي تقدمها الاستعارات في لغة العرب من رموز مرتبطة بالنواحي الوجدانية والعاطفية والنظر إلى عمق المعاني والكشف عن ماهيتها وهذا ما يقدر المنطق على التعامل معه.

والخلاصة أنه يجب النظر إلى النصوص والتراكيب للغة العربية من خلال المنظومة اللغوية العربية، وليس من خلال منظار آخر خارج السياق لا يستطيع أن يفسر الجمل والتراكيب التي تعبر عن دلالات ومعاني معينة يقصدها أهل اللغة ولا يستطيع نظام المنطق استيعابها أو فهم أبعاد دلالاتها أو قل تجاوز المقصود أحيانا من التراكيب اللغوية بإضافة أشياء ليست مقصودة. فمثلا تفسير الآية 107 من سورة هود (خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتْ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ) فالمتكلمون يعلقون خلود أهل النار في النار بدوام السماوات والأرض من منظور التفسير المنطقي للشرط في حين أن هذا التركيب في اللغة العربية "ما دامت السماوات والأرض"يعبر عن الدوام والخلود أبدا بدون انقطاع، فكان من بعض المتكلمين أن قال أن أهل النار لا يخلدون فيها أبدا لأن ذلك معلق على شرط بقاء شيء فان وهو الأرض والسماوات.

لذلك أرى أن تفسير التركيب اللغوية الواردة في نصوص اللغة العربية وخصوصا تلك التي جاءت بها الشريعة يجب أن يكون من خلال منظار النظام اللغوي الذي كان سائدا في فترة تنزل الوحي بين العرب وما تلا هذه الفترة قبل فساد اللسان العربي ودخول التأثير الغريب من الفلسفة اليونانية عبر علم الكلام وهذا ينطبق على عصر الجاهلية والنبوة والخلفاء الراشدين وصدر الدولة الأموية. أما ما بعد ذلك فيجب النظر إليه بحذر، وهناك مشكلة أن معظم ما بين أيدينا جاء من عصر التدوين وتقعيد القواعد في العصر العباسي.فهل يوجد لهذه المهمة رجال يزيلون الغبار والأتربة عما علق بالنظام اللغوي من أدران نتيجة علم الكلام.

والسلام عليكم

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

شكرا لك على التعليق