الثلاثاء، 31 يوليو 2012

طريقة التفكير المنتجة

طريقة التفكير المنتجة

ذكرت طريقة التفكير المنتجة في مقدمة كتاب النظام الاقتصادي في الإسلام قي معرض الحديث عن الثروة التي يتسلمها الجيل من سلفه.  واعتبر الشيخ العلامة المرحوم تقي الدين رحمة الله عليه أن أعظم ثروة ليست هي الثروة المادية ولا الثروات الهائلة في باطن الأرض ولكن الثروة الفكرية. ذلك أن التاريخ أثبت لنا، وما زال يثبت أن أصحاب الثروات المادية ممن هم فاقدي أية طريقة تفكير منتجة سرعان ما يستنفدون ما في أيديهم من ثروة مادية ويعودون إلى الفقر من جديد وهذا ما هو حاصل للبلاد الإسلامية .
فمع وجود الثروات النقطية الهائلة، الا ان مجموع إنتاج الدول العربية مجتمعة لا يصل إلى إنتاج دولة أوروبية واحدة تعتبر فقيرة هناك كأسبانيا، والسبب كما هو واضح وجود أو فقدان طريقة منتجة للتفكير. وقد قال الشاعر قديما: العلم يبني بيوتاً لا عماد لها والجهل يهدم بيوت العز والكرم.


ولكن تقفز حزمة اسئلة فورا الى الذهن مفادها:

  • ماذا يقصد بهذا المصطلح "طريقة التفكير المنتجة"؟ وتنتج ماذا؟
  • ما علاقة الطريقة العقلية والطريقة العلمية  بطريقة التفكير المنتجة؟
  • ما علاقة طريقة التفكير المنتجة بالفكر العميق وما علاقتها بالفكر المستنير؟
  • هل هذه الطريقة خاصة بالافراد فيوصف بها الافراد بان عندهم طريقة تفكير منتجة ام هي صفة يمكن اطلاقها على الامة او على حزب فيها؟ ؟
  • كيف نحكم على شخص او على امة او على شعب او على حزب بانه يمتلك طريقة تفكير منتجة؟
  • هل طريقة التفكير المنتجة خاصة بالمسلمين ام تختص بهم وبغيرهم؟
  • ما علاقة طريقة التفكير المنتجة بالاجتهاد وبالناحية التشريعية؟
  • ما علاقة طريقة التفكير المنتجة بالعلاقة السببية؟

اولا : في بناء المفهوم

بداية، لا بد من الاشارة اولا الى ان هذا المصطلح: "طريقة التفكير المنتجة" هو احد مفردات الجهاز المفاهيمي الذي لجأ اليه الشيخ الامام المرحوم ابو ابراهيم النبهاني في توصيف وتشخيص حال الامة واثناء جهده في صياغة المنظومة الفكرية التي قام عليها الحزب تاليا ضمن مخطط هندسي شديد الاحكام والوضوح لينقل الاسلام من مستوى الوجود النظري الى الواقع العملي من خلال طرحه بقالب جديد سماه البعض "الطابع الفكري للحزب" . فاول ما يلاحظ هو ان هذا المصطلح هو حكر على الحزب واحد مفاهيمه واحد مفردات جهازه المفاهيمي التي توسل به التقاط الحال وتشخيص الواقع.


يتكون المصطلح من مقطعين: الاول طريقة التفكير والثاني المنتجة كصفة لهذه الطريقة. وكان عرفت طريقة التفكير في كتاب التفكير بانها: "منهج معين في البحث يسلك للوصول الى الحقائق" . وبكلمة اخرى هي نموذج معين وفق قواعد محددة يقوم بها الانسان من اجل الحكم على الواقع وفهمه حتى يكون هذا الحكم على ذلك الواقع طبقا لما هو عليه ذلك الواقع، اي موافقا لحقيقته وعاكسا جوهره ومفسرا وجوده. ومن هذا المنطلق في تحديد وتعريف "طريقة التفكير" جاء الاختلاف والتباين بين نوعين من الوقائع التي يمكن ان يجري فيهما التفكير : احدهما المادة وصفاتها وخواصها وهذه لها ما يعرف بنموذج معين او منهج معين او ان شئت طريقة معينة في البحث بقواعد معينة اطلق عليه "الطريقة العلمية" فيما بقية الامور التي لها علاقة بالحوادث كالتاريخ والعقائد ونحوه لها بدورها منهجا معينا اخر بقواعد مختلفة وضوابط مغايرة اطلق عليها "الطريقة العقلية". ومن المهم التنويه بان هذا التفريق حاسم ويساعد كثيرا في فرز المواضيع لانه مبني على امر سبقه وهو تعريف التفكير او الادراك او العقل.


واذن، فمعنى القسم الاول من المفهوم والذي هو :"طريقة التفكير" هو منهج معين في البحث بقواعد ثابتة وضوابط محددة يسلكه الذي يقوم بعملية التفكير للوصول الى اصدار احكام على وقائع والتوصل الى الحقائق. واما المقطع الثاني من المصطلح : "المنتجة" فان الانتاج هو الوصول بهذه العملية من خلال ذلك المنهج الى النتائج المرجوة، اي الوصول الى الثمرة والتي هي الغاية من وراء اجراء عملية التفكير تلك حتى لا يكون العمل العقلي عبثا ولاخراج التخريفات والاوهام التي هي نتاج اي عملية تفكير لا تتم طبقا لضوابط التفكير وقواعده، اي لا تتم في المحسوس المدرك.


الا ان هذا التفسير لمعنى "طريقة التفكير المنتجة" من خلال الفصل بين طريقة التفكير وصفتها وهو ما تم سابقا ربما لا يكون موفقا مع فائدته تماما مثل محاولة تعريف اي مصطلح اخر مثل اصول الفقه، اذ لا بد من محاولة اعطاء المفهوم الذهني لهذا المصطلح وتحديد محتواه ووضع الاصبع عليه لبلورته، اقصد محاولة تعريف "طريقة التفكير المنتجة" بنفس المضمون والمحتوى  الذي يجب ان يتبادر الى الذهن فور سماعه.  وللتصدي لذلك يمكن القول بان تعريف "طريقة التفكير المنتجة" هو :

منهج معين في البحث يسلك لفهم الواقع القائم واطلاق الاحكام الصادقة على الوقائع والمشكلات الجارية باستخدام الطريقة العقلية بهدف الوصول الى معالجة (غاية) محددة باستخدام الوسائل والاليات والاساليب التي تنسجم مع عقيدة الذي يقوم بتلك العملية.
طريقة التفكير المنتجة هي منهج معين لفهم وتحليل وتشخيص الواقع  وفق العلاقة السببية بين متغيرات هذا الواقع حيث يتم التعرف على أسباب المشكلات، كما تتم دراسة الأولويات والبدائل لحل المشكلات  مع انتقاء الاساليب والوسائل الناجعة في العلاج الامر الذي يتطلبه توفر الكفاءات اللازمة والثروة والمعرفة الفنية والأدوات والوسائل المناسبة. فتتوجه الطاقات والجهود نحو تحقيق أهداف معينة بناء على تخطيط محكم للحاجات والاولويات والمتطلبات بناء على تفكير ذاتي تدرس فيه المشكلات


والاهم من ذلك توفر النظام والمناخ الذي يساعد على الوصول إلى الأهداف من قبل الدولة نفسها ومن قبل أفرادها وتعين الجميع على الإبداع وتبني المبدعينومن ثم يتم تبني طريقة معالجة لها مأخوذة من مبدأ الأمة وهو الإسلام، وفي طريقة التفكير. وبهذا تنتج الثروة وتتراكم ويتحقق للمجتمع الرفاهية ويبتعد عنه هاجس الفقر والدَيْن وكل ذلك بفضل وجود طريقة التفكير المنتجة في الأمة والدولة. فطريقة التفكير المنتجة هي أن يكون للتفكير ثمارا صالحة، والانتاج هنا يعني انتاج الغايات والاهداف.
فكل غاية حتى تتحقق لا بد من استخدام العقل والتفكير بالطريقة المثلى لتحقيقها وذلك بالقيام بأعمال محددة واستخدام وسائل وأساليب للتنفيذ. فإذا تم تحقيق نتائج مطابقة للهدف والغاية التي كانت متصورة في الذهن قبل القيام بالعمل يكون حينها التفكير منتجا ومثمرا. غير أن الطريقة المثلى لتحقيق الأهداف باستخدام الفكر لا يمكن أن يكون جديا ومثمرا إلا إذا كان مبنيا على قاعدة فكرية (عقيدة عقلية) وتحولت هذه القاعدة لدى صاحبها إلى قيادة فكرية ، وبكلمات أخرى لا بد أن يكون التفكير على أساس مبدأ يوجه التفكير بطريقة محددة لإنتاج وتحقيق الاهداف وفق ضوابط ومقاييس معينة وربط للأسباب بمسبباتها الصحيحة وذلك بادراك القوانين والسنن التي تربط الافعال الانسانية بالنتائج .


وتقتضي طريقة التفكير المنتجة القيام بإدراك واقع المشكلات وتحديد المشكلة المحورية بواسطة تطبيق قاعدة العلاقة السببية من خلال إدراك المسببات (نتائج المشكلة) أولا ثم البحث المستنير عن أسبابها ثم الانتقال إلى تحديد الأهداف وتطبيق قاعدة السببية في الوصول إلى المعالجات وقياس المعالجات إلى القاعدة الفكرية ووجهة النظر عن الحياة لاختيار المعالجة الصحيحة وتحديد طريقة تنفيذ العلاج واختيار الوسائل والأساليب اللازمة للقيام بالأعمال وذلك باستخدام الفكر المستنير، ومن ثم القيام بالمتابعة اللازمة أثناء التنفيذ لإدراك الخطوة التالية حسب الخطط المرسومة واتخاذ الإجراءات الملائمة في حالات ضعف الأداء أو الانحراف عن الأهداف, حتى الوصول إلى تحقيق الغايات والنتائج المرجوة.

ثانيا: علاقة الطريقة العقلية والطريقة العلمية  بطريقة التفكير المنتجة

لا يوجد علاقة بين الطريقة العلمية وبين طريقة التفكير المنتجة، فطريقة التفكير المنتجة مبنية تماما على الطريقة العقلية، بل هي مجرد تطبيق للطريقة العقلية في التفكير. واساس ذلك هو ان طريقة التفكير المنتجة تبحث في المشكلات الانسانية والمستجدات البشرية والوقائع اليومية لمفردات الحياة للناس لتشخيصها بهدف الوصول الى حلول لها مبنية على قاعدة العقيدة حتى لا تخالف الحلول النظام المنبثق عن تلك العقيدة. فلا تختص طريقة التفكير المنتجة بالمواد وخصائصها. ان الخليفة الفاروق عمر ابن الخطاب، مثلا، عندما وجدت مشكلة عدم "وجود سيولة بايدي الرعية" حلل المشكلة فاصدر اوراقا كانت بمثابة صك دين ليتبادل الناس تلك الصكوك مقابل السلع والخدمات والتي عادت اخيرا اي الصكوك الى بيت المال. هذا مثال رائع على استخدام طريقة التفكير المنتجة في حل المستجدات ومواجهة الملمات والمشكلات. اما تلك الصكوك او القطوط وصناعتها ونوع الحبر الذي كتبت به والتواقيع ومنع التزوير فيها وكيفية اصدارها وشكلها فهو خارج الموضوع. وكذا الحال في فتح القسطنطينية حيث لا يرد بالبال انواع الادوات والاسلحة التي استخدمها محمد الفاتح، وهلم جرا.


ثالثا: علاقة طريقة التفكير المنتجة بالفكر العميق وما علاقتها بالفكر المستنير

من خلال تعريف الفكر المستنير، فان من المحسوم به ارتباط طريقة التفكير المنتجة بالفكر المستنير لان العمق فيها لا يكفي الى الوصول الى النتائج الصادقة، كما ان عمق التفكير لا يسد حاجة "طريقة التفكير المنتجة" الى البحث في المشكلة وملابساتها وعلائقها وارتباطاتها ومحيطها واثارها القريبة والبعيدة والتي هي من اركان الفكر المستنير . فطريقة التفكير المنتجة ملتحمة صميميا مع الفكر المستنير لان الاستنارة هي مقتضياتها وشرطها.


رابعا: فردية طريقة التفكير المنتجة وجماعيتها

ان طريقة التفكير المنتجة هي منهج في البحث بمواصفات وقواعد محددة. وعليه، فان اية جهة تفكر بناء على تلك القواعد والضوابط فانها تكون بذلك قد حازت على طريقة التفكير المنتجة واكتسبتها سواء كانت هذه الجهة فردا او جماعة او شعب او امة. بيد ان من الاهمية بمكان الاشارة الى ان هذه الصفة لا توصف بها جهة كأن تقول ان فلانا من الناس او جماعة كذا او امة كذا تمتلك طريقة تفكير منتجة هكذا جزافا او حتى لان ذلك الفرد او الجماعة او الامة قد وجدت لديهم تلك الطريقة مرة او حتى مرات. والمقصود ان "طريقة التفكير المنتجة كـ "صفة" او كـ "شهادة" لا تعطى الا لمن ثبتت لديه هذه الطريقة واصبحت ملكة لديه فيكون بمعظم سلوكه يرتبط ويتبنى هذا المنهج. وبكلمة اخرى، فيجب ان يستخدم الفرد او الجماعة او الامة هذه المنهج في مرارا وتكرارا في حياته اليومية فيتصدى للمستجدات والمشكلات باستمرار من خلال طريقة التفكير المنتجة ويتقيد بقواعدها وضوابطها دائما حتى تصبح سجية منم سجاياه، وعند ذلك فقط يمكن ان نطلق عليه بانه يمتاز بطريقة التفكير المنتجة.


فمثلا: من يريد بناء بيت صغير فيقوم بوضع المخطط الهندسي له, ثم يحسب ما سيجابهه أثناء البناء وبعد البناء فيحضر كافة الأوراق الثبوتية والمستندات واللوازم كتمديد الكهرباء والماء, ومن ثم الاتفاق مع مقاول إلى غير ذلك من الأعمال حتى معرفة جيرانه وكيف سيتعامل معهم. كما تبنى الحزب هذا المنهج حينما درس مشكلة المسلمين وحدد الغاية له بانها استئناف الحياة الاسلامية, وووضح طريقته, وتبنى من الأفكار والآراء والأحكام ما يبين كيان الدولة وأجهزتها والنظم التي تقوم عليها كنظام الحكم والاقتصاد والاجتماع وعلاقة الأمة بغيرها من الأمم. لذلك وضع الحزب كتاب نظام الإسلام ووضع كتاب النظام الاقتصادي وكتاب النظام الاجتماعي وكتاب نظام الحكم وكتاب مقدمة الدستور…. وغيرها من الكتب.وقد غلب على كتب الحزب هذه السمة (الطابع الفكري) بشكل ظاهر وتعد هذه الريادة في للحزب ولم يسبقه أي تكتل في ذلك.


ويلاحظ ان وجود الافراد النابهين الذين يمتلكون هذه "النعمة" و" الخاصية" والتي هي طريقة التفكير المنتجة يمكن ان يكونوا النقطة التي تحرك "بركة" الامة. الا ان وجود جماعة تتبنى هذه الطريقة وتلتزمها لتكون اكثر فاعلية في التأثير في المجتمع بصفتها كيانا فاعلا وبصفة المجتمع كيانا منفعلا. ولا بد من المران والتدريب والتكرار والدربى حتى تمتلم الجماعة كلها والمجتمع برمته هذه الصفة بان يكون لديها طريقة تفكير منتجة. ويجدر التحذير بان امتلاك طريقة التفكير المنتجة في وقت عند جهة ما (فرد او جماعة او امة) لا يعني الركون والقول الى ان طريقة التفكير المنتجة موجودة وكفى الله المؤمنين شر القتال، بل يمكن لمستوى ومدى ومنسوب طريقة التفكير لدى الفرد والجماعة والامة ان يتذبذب قوة وضعفا بين وقت واخر، والنتيجة الاهم هي انه لا سبيل الا الاصرار على استخدام هذه الطريقة مهما بلغت الصعوبات لتصبح ديدن الافراد والجماعات والامة.


ان طريقة التفكير المنتجة ليست خاصة بقوم معين او امة خاصة، بل هي ملك لكل من التزم بحيثياتها وقواعدها ونواظمها وضوابطها كائنا من يكون. وبالرغم من ذلك، فان النصوص الشرعية الاسلامية التي اكدت على السنن التاريخية والعلاقات السببية وربط الاسباب بمسبباتها ونحوه لتبعث "طريقة التفكير المنتجة" في المسلمين بشكل اقوى من غيرهم لولا الضعف الشديد الذي طرأ على الاذهان في فهم الاسلام.

خامسا: علاقة طريقة التفكير المنتجة بالاجتهاد وبالناحية التشريعية

لا تتناظر طريقة التفكير المنتجة مع الاجتهاد، فهما ليسا شيئا واحدا، وان كانت طريقة التفكير المنتجة تحتاج الى الاجتهاد خاصة في اقتراح البدائل واختيار الحلول. صحيح ان الاجتهاد من حيث كونه اعطاء الحكم الشرعي في الوقائع المستجدة والنوازل المستحدثة يقوم على تشخيص الواقع المبحوث والمشكلة التي تكون مبسوطة على طاولة البحث شأن الاجتهاد في هذا شأن طريقة التفكير المنتجة، وصحيح ايضا ان اعطاء الحكم الشرعي والوصول اليه جزء اصيل في الجهتين طريقة التفكير المنتجة والاجتهاد سواء بسواء، ومع ذلك كله، فان طريقة التفكير المنتجة اشمل واعم من الاجتهاد ولو ان الاجتهاد ركن اصيل فيها. فان يقوم مجتهد ما باعطاء الحكم الشرعي في الصلاة على القمر او بالاستنساخ مثلا لا علاقة له بطريقة التفكير المنتجة حسب ما المعنا اليه سابقا.


سادسا: طريقة التفكير المنتجة والعلاقة السببية  

اتضح ان "العلاقة السببية" هي ذات أهمية خاصة في طريقة التفكير المنتجة، فكان لا بد من البحث والتعمق فيها لبلورتها بشكل واضح يعطي الآلية الملائمة لكيفية تطبيق طريقة التفكير المنتجة. وبالتالي فلا بد من بحث جاد في السببية في أسسها الفكرية التي تقوم عليها ومن ثم تناول تطبيقاتها في الحياة العملية من خلال الأعمال السببية التي تتناول مسألة الدوافع والأهداف والنتائج. فكل عمل سببي إنساني يجب أن تكتمل فيه العناصر التالية:

1-  دوافع 2- أهداف 3- نتائج 4- شرعية الفعل 5- طريقة تنفيذ 6- خطة 7- أسلوب ووسيلة
ودافع العمل هو الطاقة السببية المحركة له ويراد منه تحقيق نتائج وثمار معينة تكون متصورة في ذهن الفاعل قبل إقدامه على الفعل وهي الأهداف، والعلاقة بين السبب وهو العمل الإنساني وبين المسبَّب وهو النتيجة المراد تحقيقها هي علاقة سببية سواء أكان هذا الفعل فرديا أم جماعيا.


 والعلاقة السببية تجري وفق قوانين وسنن محددة وضعها الله وقدرها في جميع الأشياء وتخضع لها الحياة البشرية جبرا عنها، فلا بد للمسلم عند إرادته القيام بعمل معين أن يدرك الدافع له ليستطيع مقدار ومستوى الطاقة السببية المطلوبة لتحريك العمل لتكون النتيجة المطلوبة متلائمة مع الهدف، وحتى يصل المسلم إلى هدفه يجب عليه إدراك العلاقة السببية بين الهدف والنتيجة وذلك بتحديد الفعل السببي المؤدي إلى إحداث المسبب وهو النتيجة.

الفطرة

الفطرة


الفطرة تأتي بمعاني مختلفة منها:

·        الفطرة بمعنى شعور الإنسان بعجزه واحتياجه إلى قوة كبرى تعينه أي إلى الخالق المدبر، أو هي بمعنى التوحيد

·        الفطرة بمعنى الخلقة والجبلة وهي تعني جميع ما خلق عليه الإنسان من غرائز وحاجات وطبائع وعقل وحب وكره ولذة وألم.

وغالبا عندما يتعلق الأمر بالعقيدة والتدين والايمان والقاعدة الفكرية والفكرة الكلية فيقصد بها المعنى الأول أي الشعور بالحاجة إلى الخالق، والفطرة هنا آتية من إثارة غريزة التدين والتقديس التي خلقها الله في الإنسان فيتولد من إثارتها مشاعر الاحتياج للاستعانة بالقوة الكبرى والبحث عن القيام بأفعال تعبدية تشبع هذه الغريزة وتطفئ جذوة الفطرة.

وتطلق الفطرة ويقصد بها المعنى الثاني وهي لها علاقة بشعور الإنسان تجاه أشياء معينة من ناحية الحب لها أو النفور منها، فالإنسان ينفر من القتل والظلم والمشقة وينفر من الجهل والغلظة والفظاظة، ويحب العدل والنور والجمال والرحمة، كذلك فإن الإنسان مفطور ومجبول على حب الاستقرار والسكينة والهدوء والراحة وينفر من الشقاء والألم وبذل الجهد الشاق والتعب والنصب.

ولكن هذه المشاعر الفطرية يجب أن لا تحكم على الأفعال، فالتكاليف الشرعية في معظمها مشقة وتعب كالجهاد والحج والصلاة والصوم وغير ذلك، فالفطرة هنا تنفر من المشقة الناشئة عن الالتزام بالتكليف الشرعية وإن كانت هذه التكاليف مما يحبه الإنسان عادة. فلا يجب جعل هذه المشاعر هي الحاكم على الأفعال بالحسن والقبح كما ورد في بحث الحاكم والحاكمية في أصول الفقه.

ومن حهة أخرى فإن الفطرة أي شعور التدين الناشئ عن العجز كما تظهر في الحاجة إلى الإستعانة بالخالق فإنها تظهر في تدبير شؤون الحياة بنظام معين، كما ورد في كتاب نظام الإسلام في موضوع القيادة الفكرية فالفطرة تدفع الإنسان إلى اللجوء إلى الخالق والاستعانة به في تنظيم شؤون الحياة أي الحاجة إلى تشريع إلهي أي لأخذ الأحكام الشرعية من عند الله عز وجل.

هذه بعض الأفكار الهامة المتعلقة بالفطرة بشكل إجمالي بربطها بغريزة التدين، وربطها بالرغبة والنفور الذي جبل عليه الإنسان ومنها نفوره من القيام بالتكليف الشاقة، وربطها بحاجة الإنسان إلى الشريعة الربانية.

الاثنين، 30 يوليو 2012

النظام اللغوي

النظام اللغوي:

أن ما تمر به أمتنا من تأخر عن ركب الأمم يدفع مفكريها للبحث عن حل لما هي فيه ليوصلها إلى النهضة, وبمعرفتنا بجوهر مشكلتها بأنه سوء الفهم للإسلام وأن أساس إنهاضها يجب أن يقوم على إحسان فهم الإسلام وينتج عنه إحسان تطبيقه. وكان من أحد أسس سوء الفهم للإسلام هو فصل الطاقة العربية عن الطاقة الإسلامية وبالتالي كان لا بد من مزج هاتين الطاقتين للوصول إلى النهضة، والطاقة العربية عي طاقة اللغة العربية كأداة في الفهم لما فيها من قدرة على التأثير والتوسع والانتشار.

واللغة العربية اللازم إحسان فهمها لها نظام خاص اصطلح عليه واضعوها وقت تنزل القرآن ذلك أننا نريد إحسان فهم النصوص الشرعية التي بين أيدينا بالكيفية التي فهم فيها العربي تلك النصوص وقت تنزلها وليس بعد مئات السنين ذلك أن اللغة تتغير وتتطور بفعل مؤثرات سببية كثيرة وهي سنة الله في خلقه بأن كل شيء خلقه ينفعل بفعل الأسباب المؤثرة فيه، لذلك فالنظر في اللغة العربية في وقت ما يتأثر بالنظام اللغوي للمتلقي في وقت تلقيه لأن اللغة في ذلك الوقت تكون قد تطورت بشكل معين يجعل فهم النصوص خاضعة للنظام اللغوي في حينه.

لذلك نقع في إشكالية لا مجال للخروج منها إذا حاولنا فهم نصوص معينة من نظام لغوي خارج النظام الذي كتب فيه تلك النصوص. وبالتالي كان لا بد من النظر في النصوص أيا كانت من منظور النظام اللغوي الذي كتبت فيه وعدم إقحام نظام آخر في الفهم والتفسير لتلك النصوص قد ينحرف بها إلى غير المقصود. ولذلك كان لا بد لنا لإحسان فهم اللغة العربية من النظر فيها من داخل النظام اللغوي الذي كان سائدا في عصر تنزل القرآن على العرب لأنه نزل بلسانهم، وكان لا بد من فهم النظام اللغوي أولا حتى ننتقل بعد ذلك لفهم النصوص الشرعية بلغتها العربية من داخل المنظومة اللغوية للعرب في تلك الحقبة.

إن النظام اللغوي لمجتمع ما في فترة ما يتميز بنظام للتعبير عن المعاني من خلال ألفاظ اللغة السائدة. والمقصود بالنظام اللغوي هو استخدام قوالب الجمل اللغوية أي التراكيب اللغوية للتعبير عن المعاني الفكرية التي في الذهن، فاللغة ليست مفردات متفرقة يجمع الشخص بينها كيفما يشاء بدون ضوابط بل إن ابن اللسان المعين يعبر عن المعاني الذهنية بطريقة محددة يتلقاها من صغره ممن حوله وبالتالي هو يستخدم الجمل والتراكيب اللغوية بذات الطريقة التي تلقاها والتي يستخدمها أبناء مجتمعه من حوله.

أما من يتعلم لغة ثانية بعد سن البلوغ فلا يمكنه أن يتقنها كأهلها، بل يستخدم في غالب الأحيان النظام اللغوي الذي أكتسبه في صغره ليعبر بألفاظ اللغة الجديدة عن المعاني الذهنية، لذلك تجد أبناء اللغة الأصليين يميزون مباشرة هذا الشخص بأنه من غير أبناء اللغة من خلال التراكيب التي يكون فيها الجمل، حتى ولو كان معنى الجمل التي يقولها صحيحا. وهذا ما حصل للغة العربية بعد دخول الأعاجم إليها حيث أخل هؤلاء بالتراكيب اللغوية وأدى إلى حصول ما يسمى بفساد اللسان العربي.

كذلك يستطيع أبناء لغة معينة تمييز أهل لغتهم من غيرهم من خلال نبرة اللغة أو الموسيقى اللغوية، فالمجتمع الذي يتكلم لغة معينة يعبر بجمل معينة باستخدام نبرة موسيقية محددة تتكرر في الكلام. فمثلا أبناء مصر يتميزون بلحن موسيقي معين فيناسبه كلام وتراكيب معينة تنسجم مع الموسيقى اللغوية التي تعودوا عليها فلا يستسيغون مثلا قول "كيف حالك؟" لا لأنهم لا يعرفون ذلك بل لأن تفعيلات هذا التركيب لا تنسجم مع الموسيقى اللغوية الدارجة لديهم. فتراهم يستخدمون بدل ذلك "إزايك؟" أما أهل الجزيرة العربية فلهم موسيقى أخرى تتميز بالنفس القصير وتسكين آخر الكلمات جميعها تقريبا، فلا تكاد تجد في لهجتهم الحالية ممن يتكلم الفصحى من يقوم باستخدام حركات أواخر الكلمات، وهذا بعكس أهل الشام تماما الذين يحركون أواخر الكلمات لانسجام ذلك مع موسيقى لغتهم الدارجة. أما أهل تونس مثلا فيقومون بتشديد أواخر الكلمات في الجمل حتى يسهل عليهم نطق الجمل وفق الموسيقى اللغوية الموجودة في لهجتهم العامية الدارجة. والذي أريد قوله هو أن لكل بيئة معينة نبرة معينة أو قل وزنا محددا للكلمات له تفعيلات معينة تتناسب مع ما تعودوا عليه في مجتمعهم، وهذا يظهر جليا أيضا في الأوزان الشعرية والأغاني المحلية التي تتلقاها الألسن.

كذلك يقوم كل مجتمع بتحريف بعض أحرف اللغة لتتناسب مع الموسيقى اللغوية، فيتم قلب حرف الذال إلى الزاي أو الظاء إلى ضاد أو الثاء إلى تاء أو سين والجيم إلى جيم حضرمية كما في مصر، ويتم قلب الضاد إلى ظاء والقاف إلى جيم حضرمية كما في نجد والحجاز، وهكذا. كذلك هناك تمايز في نفس المجتمع في الموسيقى والأحرف بين الناس الذين يسكنون المدن أو القرى أو البدو بحيث تختلف موسيقاهم ونبرتهم وتراكيبهم والأحرف التي يقلبونها في اللغة تبعا للبيئة التي يتفاعلون معها.

أما فيما يتعلق بالتراكيب اللغوية ففي مصر مثلا يضعون أحرف الاستفهام في الجمل الاستفهامية في أواخر الجمل بعكس الأصل الحقيقي في اللغة العربية، وفي الشام تستخدم أداة النفي ما مع الفعل ويضاف إلى آخره حرف الشين.

فالمشاهد من مقارنة تطور اللهجات المحلية في البقاع المختلفة للمجتمعات التي لها نفس اللغة الأصلية كاللغة الغربية مثلا، أن هناك في كل مجتمع يعيش في منطقة معينة، لغة دارجة لها قواعدها وتراكيبها وأولوياتها ونبرتها الموسيقية، وينفر عن التعبير عن المعاني من خلال أشكال معينة من الجمل والأحرف والتي تكون غير مألوفة لديهم من التراكيب اللغوية، وبالتالي فإن المشاهد أن لكل مجتمع نظام لغوي محدد يتميز به، أو قل لكل مجتمع سليقة خاصة به يتلقاها الشخص بدون دراسة أكاديمية لقواعد نحو وصرف وتراكيب وجمل بل إن كل إنسان يكرر الجمل التي تقال في مناسبات معينة وفق ما تلقاه من لغة مجتمعه، لأن اللغة سماعية وتوقيفية في الأساس وليست خاضعة للمنطق. بل إن إدخال المنطق إلى النظام اللغوي يفسده، بمعنى أن محاولة تفسير النظام اللغوي وفق علم المنطق يؤدي إلى إعطاء أحكام خاطئة ونتائج بعيدة عن الحقائق التي يقصدها المتكلم لأن المنطق يتعامل مع الكلمات المفردة ويحاول إقحام طريقته الخاصة في التركيب المنطقي للجمل بشكل قد يبتعد فيه في أحيان كثيرة عن مفهوم أهل اللغة وعن سليقتهم وطريقتهم في تركيب الجمل وموسيقاهم.

وبالتالي فإذا أدخلنا على النظام اللغوي ما ليس من جنسه أو حاولنا تفسيره بأدوات ليست تابعة له أدى ذلك إلى إرباك وخلط عند من يقحم ذلك في النظام اللغوي، بحيث لا تنسجم فيه الأشياء التي استنتجها مع أسس النظام اللغوي، ولنضرب مثلا لذلك في كيفية تعامل المتكلمين مع نصوص الشريعة في القرآن والسنة حيث حاولوا استخدام المنطق وعلم الكلام في تفسير آيات الصفات والقدر، وكيف أوقعوا المسلمين في إشكالات ما زالت آثارها ماثلة حتى اللحظة وكيف أضطرهم إدخال النظام المنطقي إلى اللغة العربية إلى التأويل في حين لم تثر هذه الآيات نفسها إشكالية لدى أهل اللغة الأقحاح من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين حتى جاء الإشكال بدخول الفلسفة اليونانية ونشأة علم الكلام، والسبب أن الأوائل فهموا تلك النصوص من داخل منظومة اللغة العربية نفسها التي يفهمون تراكيبها ومراميها بسليقتهم الخاصة التي تلقوها من مجتمعهم، أما المتكلمون فحاولوا استخدام أدوات تفسير من خارج سياق النظام اللغوي الذي نزل بلغة العرب فأدى ذلك إلى إشكالات وفتن عظيمة كفتنة خلق القرآن وصفات الله ونشوء الفرق العقائدية وتكفير بعضها البعض. ذلك أن علم الكلام له أولوياته وأسئلته وطريقة تركيب معينة للمنطق فيشكل عليه فهم بعض النصوص فيلجأ إلى محاولة تأويل ما لا ينسجم مع قواعده فيفسد فهم أصحابه لدلالات ومعاني اللغة العربية التي نزل بها القرآن.

والسبب في ذلك أنك تحاول تفسير نظام لغوي معين بأدوات ليست من جنسه، وأقصد هنا المنطق الأرسطي وما تفرع عنه من علم الكلام عند المسلمين. فالنظام اللغوي يجب أن يفهم من خلال ومن داخل نفس منظومته هو وبأدواته هو وليس بإقحام منظومة أخرى غريبة عنه لها أدواتها الخاصة في التحليل والتركيب والتفسير هي خارج سياق المنظومة اللغوية الأخرى. فالتعامل مع الاستعارات في اللغة العربية من قبل المتكلمين وفق أدوات المنطق الأرسطي أدى بهم إلى تحليل الاستعارة وتفكيكها واختزالها من سياقها اللغوي ودراستها بوصفها قضية منطقية دون النظر إلى الدلالات التي تقدمها الاستعارات في لغة العرب من رموز مرتبطة بالنواحي الوجدانية والعاطفية والنظر إلى عمق المعاني والكشف عن ماهيتها وهذا ما يقدر المنطق على التعامل معه.

والخلاصة أنه يجب النظر إلى النصوص والتراكيب للغة العربية من خلال المنظومة اللغوية العربية، وليس من خلال منظار آخر خارج السياق لا يستطيع أن يفسر الجمل والتراكيب التي تعبر عن دلالات ومعاني معينة يقصدها أهل اللغة ولا يستطيع نظام المنطق استيعابها أو فهم أبعاد دلالاتها أو قل تجاوز المقصود أحيانا من التراكيب اللغوية بإضافة أشياء ليست مقصودة. فمثلا تفسير الآية 107 من سورة هود (خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتْ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ) فالمتكلمون يعلقون خلود أهل النار في النار بدوام السماوات والأرض من منظور التفسير المنطقي للشرط في حين أن هذا التركيب في اللغة العربية "ما دامت السماوات والأرض"يعبر عن الدوام والخلود أبدا بدون انقطاع، فكان من بعض المتكلمين أن قال أن أهل النار لا يخلدون فيها أبدا لأن ذلك معلق على شرط بقاء شيء فان وهو الأرض والسماوات.

لذلك أرى أن تفسير التركيب اللغوية الواردة في نصوص اللغة العربية وخصوصا تلك التي جاءت بها الشريعة يجب أن يكون من خلال منظار النظام اللغوي الذي كان سائدا في فترة تنزل الوحي بين العرب وما تلا هذه الفترة قبل فساد اللسان العربي ودخول التأثير الغريب من الفلسفة اليونانية عبر علم الكلام وهذا ينطبق على عصر الجاهلية والنبوة والخلفاء الراشدين وصدر الدولة الأموية. أما ما بعد ذلك فيجب النظر إليه بحذر، وهناك مشكلة أن معظم ما بين أيدينا جاء من عصر التدوين وتقعيد القواعد في العصر العباسي.فهل يوجد لهذه المهمة رجال يزيلون الغبار والأتربة عما علق بالنظام اللغوي من أدران نتيجة علم الكلام.

والسلام عليكم

الحراك الثوري والصراع الحضاري


بســــــم الله الرحـــــمــــــن الرحـــــيـــــــم

الحراك الثوري والصراع الحضاري

إن محاولة فهم ما يجري في المنطقة من هبات شعبية أدت إلى الإطاحة ببعض الحكام أوجدت تساؤلات كبيرة: لماذا لم يتوقع أحد حدوث ذلك؟ وكيف انطلقت الثورة على الحكام فجأة رغم القمع والبطش؟ وهل هناك أبعاد ومضامين كامنة وراء هذا الحراك الثوري كالصراع الحضاري؟ هذا ما نحاول استشرافه في هذه المقالة.

بداية لا بد لنا من التنويه إلى أن أي صراع يتخذ اشكالا مختلفة منها العسكري والسياسي والفكري والاقتصادي والحضاري، ونريد هنا إلقاء الضوء على بُعد يُغفِله الكثيرون ألا وهو البعد الحضاري. الذي هو الصراع الأساسي الذي تعتمد عليه جميع انواع الصراعات الأخرى.  فنقول بانه إذا قسنا الأمور من زاوية الصراع الحضاري نجد أن وجود "اسرائيل" مآله الفشل والزوال تماما كما أصبح وجود الصليبيين في الشام تاريخا، وكذلك فإن هزيمة المغول حضاريا لم تقل روعة عن هزيمتهم عسكريا، وهكذا. فعندما تبحث الأمور من هذه الزاوية تبدو الأمور أكثر حتمية وأكثر وضوحا ويتضح أن لما يجري آفاق بعيدة المدى.

اختلاف الحضارات:

إن الناظر في حضارة شعوب المنطقة الإسلامية يجد أنها واحدة مشتركة وهي تتحرك معا في حراك حضاري اختزنته في فؤادها الجماعي عبر تاريخها الطويل. والحضارة غير الدولة فالحضارة عابرة لحدود الدول ولا تستطيع الحدود والحواجز ايقاف تأثيرها وحركتها، وتشكل الحضارة من جهة أخرى القوة الناعمة للدولة المبدئية.

ولا وجود لما يسمى بحضارة إنسانية حيث أن الحضارة تختلف باختلاف الأمم وطرائقها في العيش، فالحضارة الشيوعية هي غير الحضارة الغربية، والحضارة الإسلامية غير الحضارة الغربية، وغير الحضارة الشيوعية ، لأن مجموعة مفاهيم الأمم والشعوب عن الحياة مختلفة ومتباينة. ولكن عند النظر إلى الإنتاج الإنساني عموما، لا بد لنا التفريق بين ما ينتجه العقل مما يتعلق بوجهة النظر في الحياة، وبين ما ينتجه من الأشكال المادية المحسوسة كالصناعات والاختراعات، فالإنتاج الأول المتصل بالمفاهيم هو خاص بمجتمع معين، أما الإنتاج الثاني فهو عالمي. ولأجل ذلك كان الإنتاج الأول أي مجموعة المفاهيم عن الحياة هو الحضارة، وكان الإنتاج الآخر هو المدنية، ولا مشاحة في الاصطلاح كما يقال.

أنواع الحضارات:

ليس بالضرورة لأن يرتكز مجموع المفاهيم عن الحياة التي تشكل حضارة مجتمع ما على قاعدة فكرية مبدئية، فقد تكون الحضارة مرتكزة على فكرة أو أفكار جزئية، فالحضارة الفرعونية والحضارة الفارسية والحضارة اليونانية وكذا باقي الحضارات البائدة كانت ترتكز على أفكار جزئية عن الحياة، أما الحضارة الرأسمالية والشيوعية والحضارة الإسلامية فكل منها يرتكز على فكرة كلية انبثق عنها نظامها أي على مبدأ. وإذا تفاعلت حضارة المبدأ بشكل صحيح في الشعب والأمة فإنها تصبح حضارة راسخة يصعب محوها أو استئصالها.

فالحضارة الشيوعية مثلا انكمشت ثم زالت بسهولة لأن الذي حملها لم يكن شعبا أو أمة بل أفراد وجماعات في روسيا وأوروبا الشرقية وطبقت بالحديد والنار. أما حضارة الإسلام فقد بقيت راسخة في نفوس المسلمين بالرغم من زوال دولتهم، لأن المجتمع الذي حملها ونهض على أساسها لم يتخل عن العقيدة الإسلامية، وبقيت الشعوب الإسلامية تعيش في بعض جوانبها وفق مفاهيم الإسلام عن الحياة.

حتمية صراع الحضارات:

إن الناظر والمتأمل في الكون والإنسان والحياة يجد أن الله تعالى قد أقام هذا الكون على مبدأ السببية وجعل له سننا لا تتغير ولا تتبدل. وما يجري في حياة البشر فإنه يجري وفق سنن جعلها الله تعالى تنظم حياة البشر، ولولاها لاختل نظام الإنسانية ولفسدت الحياة ولما صلحت الأرض ليستخلف الإنسان فيها.

ومن تدبر آيات الله في الكتاب المسطور والكتاب المنظور نجد عدة سنن تتعلق بحضارات البشر ومعيشتهم ومنها أن الله قد جعل التعدد والاختلاف بين الناس سنة مجتمعية لعمران الأرض. ومن السنن أن الله جعل لكل أمة أجل ولها أعمار كالأفراد فتموت الأمم -وحتى لغاتها- ليس بموت أفرادها ولكن بتخلي تلك الأمة عن حضارتها السالفة. ومن السنن الربانية سرعة عقوبة الظالم في الدنيا وما يترتب على الظلم من نتائج اجتماعية وبيلة تنتهي إلى خراب العمران. ومن السنن سنة التدافع لمنع الإفساد في الأرض وإعادة التوازن إلى الحياة.

إن صراع المصالح بين الدول والشعوب هو في أصله اختلاف فكري يتبعه صراع فكري ثم صراع على المصالح ويصل أحيانا إلى صراع عسكري، وهذا الصراع على المصالح يمكن أن يكون بين حضارتين مختلفتين، كما يمكن أن يكون بين دولتين أو شعبين من حضارة واحدة. فالصراع الفكري هو أساس كل صراع على وجه الأرض منذ اختلاف ابني آدم عليه السلام إلى يومنا هذا وسيستمر إلى ما شاء الله. إذن فصراع الحضارات أمر حتمي أي سنة.

لقد ظل الصراع بين الإسلام وحضارته وبين الحضارات الأخرى صراعا فكريا وعسكريا حتى عمَّ الإسلام أرجاء العالم القديم ودخل الناس في الإسلام وانسلخوا من دياناتهم وحضاراتهم السابقة وصاروا أمة واحدة، لكن المسلمين تعرضوا لعوامل داخلية وأخرى خارجية، أدت إلى انكماش حضارتهم وكادت أن تزول ولكنها لم تمت، وأزيلت دولة الإسلام التي طبقت هذه الحضارة، فيماارتفعت في المقابل حضارة الغرب الرأسمالية. فحضارة الغرب الرأسمالية قد صرعت المسلمين عسكريا وسياسيا واقتصاديا ولكنها لم تصرعهم فكريا، ولكن تأبى سنن الله إلا أن تكون الغلبة والنصر في نهاية المطاف للإسلام والمسلمين إن شاء الله.

الحراك الثوري:

من تدبر سنن الله في التغيير نجد أن كل الثورات وحركات التغيير التي عرفها الإنسان عبر تاريخه الطويل جاءت بداياتها أول مرّة في النفوس، نفوس تتغير وتتحول من الداخل كليا أو جزئيا لرفض الواقع والتمرد عليه، وتتشكل فيها الأفكار الجديدة والمشاعر المغايرة والمضادة لما هو قائم في اتجاه تحقيق التطلعات والآمال، وهذه سنة ربانية قال تعالى في الرعد: (إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ(11).

ولكن حين لا يحدث التغيير طبيعيا في ظل معيقات كشدة الظلم والتجبر، تبلغ الأمور حد التأزم عند طغيان الفساد، ويبلغ الاختلال في موازين الحياة مبلغا لا يحتمل، وتبلغ الثورة في النفوس النضج، تتحرك حينها سنة ربانية هي سنة الصراع التدافعي بين الأمة وحكامها لإزالة الظلم والظالم، قال تعالى في سورة البقرة: (وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ (251). عند ذلك تتحرك الثورة الشعبية التي تعبر عن صراع بين إرادتين متعارضتين في المبدأ والمنهج والغاية، فالثورة حراك طبيعي إنساني تاريخي ينطلق متى توفرت شروطه ولوازمه ساعيا إلى إحداث بناء جديد بعد تحطيم البناء القديم.

ولأن الفكر الذي فرضه الاستعمار على الأمة ومن بعده ورثته من الحكام هو فكر رأسمالي مستورد وحضارة فرضت زورا على واقع حضاري مخالف، بالقوة القاهرة والاستبداد والقمع والجبروت، وقد آن زواله مهما امتلك من قوة قامت بتصفيح هذه الأنظمة لضمان عدم الانقلاب عليها وإزالتها. كان لا بد أن يحدث الصراع التدافعي ليزيل ظلمهم وتجبرهم، وكان لا بد من تحرك شعوب الأمة في صراعها لبقايا حضارة استنفدت أغراضها في بلادنا لتحل محلها حضارة عميقة الجذور في وجدان هذه الأمة، لذلك كان لا بد من حراك ثوري في بلدان العرب.

ضعف الحضارة انكماشها:

إن الحضارات المبدئية لا تموت في العادة، فإذا تبنتها شعوب وأمم وآمنت بفكرتها الأساسية وبقيت سائرة في الحياة وفق مفاهيم هذه الحضارة حتى لو تعرضت لعوامل خارجية كالغزو وذهاب دولتها فإن الحضارة تضعف وتنكمش ولكنها لا تزول. إن الحضارة تدخل طور الانكماش في العادة عندما لا تستطيع إيجاد حلول لمشاكلها الداخلية والخارجية بالاعتماد على قاعدتها الفكرية وتأخذ بالضعف عندما يضعف أثرها في نفوس أهلها ونفوس من تحمل المبدأ لهم وتنشره بينهم، وقد تفقد شرعيتها ويظهر نفاقها إذا اتبعت معايير مزدوجة في التطبيق.   عندما تدخل الحضارة طور الانكماش ، يقل الإبداع الفكري في المجتمع وتصبح الأجواء غير ملائمة للمفاهيم النهضوية ويصبح الإنتاج الفكري إما قليلا أو عقيما وتجمد قرائح الناس وتتعقد المشكلات ولا تجد لها حلا، ويتبع هذا الانحدار الحضاري ضعف في الانتاج المدني لزوما.

انكماش الحضارة الإسلامية ثم صعودها:

إن لنا لما حصل في تاريخ المسلمين لعبرة أي عبرة! ويعلمنا من سنن الله ما ينفعنا في حاضرنا ومستقبلنا، فكان لا بد لنا من دراسة تاريخ هذه الأمة بعمق واكتشاف أسباب ضعفها ثم التعرف على ما يعالج هذا الضعف من أسباب ومن ثم الأخذ بها للنهوض.

لقد كان إهمال شأن اللغة العربية في أوائل القرن السابع الهجري، ثم إغلاق باب الاجتهاد، ودخول بعض أفكار الحضارات القديمة من الفلسفة الهندية وأفكار الفلسفة اليونانية قد أدى إلى اضطراب فهم الأحكام الشرعية، وعندها بدأت الحضارة الإسلامية تنكمش فعليا، ثم أخذت طور الاضمحلال والانحدار عند الغزو الثقافي والغزو التبشيري، ثم شارفت على الانهيار في بداية القرن العشرين حين تم للحضارة الغربية هدم دولة الخلافة العثمانية. لكن حضارة الإسلام لم تمت وإن ضعفت، وما زالت شعوب المسلمين تمارس مفاهيم حضارة الإسلام بالرغم من هدم دولتها.

لقد بدأت الحيوية تدب في الأمة الإسلامية إثر الهزات العنيفة التي مرت بها الأمة حيث أدت هذه الهزات إلى جعل الأمة الإسلامية تتقدم نحو النهضة على شكل تحركات جماعية، وعودة الثقة للمسلمين بحضارة الإسلام وأنه يشكل البديل الحضاري الأمثل لهم، وبدأت مؤشرات ذلك تظهر بوضوح. ثم تلا ذلك حدث زلزل أركان المنطقة بفعل الحراك الثوري في بلاد المسلمين ابتدأت شرارته بدفع ذاتي خالص في تونس ثم انتقل هذا الحراك إلى مصر فتبعتها اليمن وليبيا والأردن والبحرين والمغرب والجزائر ثم وصلت الأمور إلى واسطة العقد في بلاد الشام، وكان من الأسباب المباشرة لهذا الحراك هو وصول الظلم والتجبر الذي مارسه الحكام إلى حد الأزمة المحرك للثورة. إن الحراك الثوري يعبر بشكل جلي عن انحسار حضارة الغرب في نفوس المسلمين وسعي الأمة لاستعادة مجد حضاري ضائع ضيعه حكامهم وزعاماتهم ولإزالة الظلم، ثم السعي للبحث عن البديل الحضاري الأمثل.

صعود الحضارة الرأسمالية ثم انكماشها:

قد يبدو للبعض أن الحضارة الرأسمالية ما زالت قوية وناهضة ولكن المدقق يعرف أنها دخلت طور الانكماش والضعف، فقد نشأت هذه الحضارة في أوروبا وظهرت بقوة، ثم دخلت طور العالمية بعد الحرب العالمية الأولى، لكن الرأسمالية سرعان ما انكمشت وضعفت مع انتشار الحضارة الشيوعية بعد الحرب العالمية الثانية جراء تعرضها لضربات فكرية وسياسية عنيفة، ثم عادت فصعدت بعد انهيار الحضارة الشيوعية سنة 1990 حيث بشرت امريكا بمشروع العولمة الرأسمالية. وأخذت نزعة العنجهية والتكبر على العالم تزداد في أمريكا.

هذه النزعة العنجهية والتكبر طمستا على عيون أمريكا وجعلها تستهين وتستخف بكل ما سواها من أمم دول وحضارات، ورأت أن مشروع القرن الأمريكي الجديد لن يكتمل إلا بصرع الحضارة التي ما زالت مستعصية عليها ألا وهي حضارة الإسلام، فأشعلت الحرب على ما يسمى بالإرهاب وأججت الصراع الحضاري بين الرأسمالية والإسلام مما أدى إلى تسريع عملية التغيير الحضاري على مستوى الشعوب الإسلامية، فأجبرهم الغرب على العودة سريعا إلى هويتهم الحضارية ليشعروا بانتمائهم إليها ويحتضنوها.

لكن الحضارة الرأسمالية وعلى رأسها أمريكا، قد دخلت فعلا طور الانكماش والضعف من جديد، وذلك بعد غزو العراق، حيث زلزلت المقاومة العراقية مشروع المحافظين الجدد، ثم تلا ذلك ضربة في الصميم بعد الأزمة المالية للنظام الرأسمالي سنة 2008 وظهرت مؤشرات متعددة على التصدع الحضاري لأمريكا.

قد يجادل البعض بأن مؤشرات انكماش الحضارة الغربية ليست بقوية، لكن ما يهمنا في هذا المجال هو حقيقة انكماشها بل تراجعها الكبير في العالم الإسلامي، فالصراع الفكري بين الحضارة الرأسمالية والحضارة الإسلامية قد ازداد في بلاد المسلمين منذ الخمسينات والستينات من القرن الماضي ثم ظهر للعيان بعد هزيمة 1967 اندحار المشروع القومي العربي وبدأ يخلي مكانه للمشروع الحضاري الإسلامي. فحضارة الغرب قد انكفأت فعليا في بلاد المسلمين وأخلت مكانها للحضارة الأصيلة التي تقدمت بخطوات سريعة.

الحراك الثوري هو نتيجة الصراع الحضاري:

أن الأمة قد قررت قرارها بضرورة العودة إلى حضارتها ومبدئها. أما الحكومات العميلة فكانت ما تزال تفكر بأن قوتها العسكرية وأمنها ومخابراتها كافية لحماية عروشها المتصدعة.في وجه غضب شعوبها التي شعرت بالظلم وبجبروت الحكام وتخاذلهم أمام الدول الرأسمالية الظالمة وخذلان أهل فلسطين وغيرها من الأسباب، فأتاهم الطوفان من حيث لم يحتسبوا.

ومن فهم سنن الله تعالى نجد أن إرادة الله اقتضت أن يحدث التغيير والتدافع بين الشعوب وحكامها، فتكسر الشعوب حاجز الخوف فتحدث الثورة. وهكذا كان فعلا، وحدث الحراك الجماعي العفوي من قبل الأمة الذي أطاح بعرش دولة بلغ فيها الصراع الحضاري أوجه بحربه الشديدة على الإسلام حتى وصل الأمر إلى إغلاق المساجد والتضييق على مصليها ومحاربة الحجاب. قال تعالى: (وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً) (الحج:41). لذلك كانت تونس وكان لا بد أن تكون تونس لأن جرعة الصراع الحضاري بالإضافة إلى كافة أشكال الظلم فيها قد بلغ مبلغه وخصوصا مساجد الله.

أما باقي المناطق التي كان فيها الصراع الحضاري والظلم شديدا كسوريا ومصر والمغرب والجزائر والأردن فقد كانت نارا من تحت رماد. وكانت شرارة البداية ثورة تونس ورؤية الناس للنموذج التونسي والانهيار المدوي لحكم ابن علي قد أعطى دفعة قوية للنفوس حتى أوصل الصراع إلى النقطة الحرجة لحدوث الثورة والتغيير الحضاري، وإعادة سلطان الأمة المغصوب، فكانت مصر تاليا لنضوج الظروف فيها أكثر من غيرها، ثم وصل الحراك الثوري إلى القلب حيث الشام، وهنا أدرك الغرب أن مشروعه الحضاري وصل نقطة الأزمة الحقيقية فأجمع على الوقوف في وجه الشام لايقاف المد الحضاري للإسلام.

المشروع الحضاري البديل:

إن الحراك الثوري الذي دب في الأمة عابرا حدود دول سايكس بيكو، هو عملية انتقال سريع نحو الدرب الموصل إلى إحلال الحضارة الإسلامية إحلالا كليا محل حضارة الغرب، ولكن هذا الحراك يحتاج لمرحلة انتقالية حضاريا وهي مرحلة نسميها تصفية الحكم الجبري الظالم، وتكون الأمور في هذه المرحلة غير واضحة المعالم فيتصدى لها أصحاب الفكر الوسطي الذين يحاولون التوفيق بين الحضارتين الإسلامية والرأسمالية، وفي خلالها تنتعش فرص هذه المدرسة التوفيقية، ولكنها بلا شك ستكون فترة مؤقتة ما دام الصراع الحضاري مشتعلا.

إن التحول الحضاري والحراك الثوري سيصل إلى نتائج أبعد مما يتصور هؤلاء الوسطيون التلفيقيون وسيتجاوزهم الزمن سريعا، ولن يكون مشروعهم الوسطي مناسبا للمرحلة القادمة وسيبوء بالفشل بإذن الله، ذلك لأنه فكر مزور، والأمة في المرحلة المقبلة ستحتاج إلى فكر حقيقي نابع من صميم مبدئها، فكر يكون هو البديل الحضاري الحقيقي لإعادة انهاض الأمة وبناء حضارتها على أساس متين وسليم، وسيأتي طور جديد لحضارة المسلمين يحقق فيه هذا الفكر المبدئي مشروعه ودولته والذي سيحرر الأمة فعليا وتجتمع كلمتها وتتوحد.

المشروع الحضاري ودولة الخلافة:

إن الحضارة التي تهدم نفسها ودولتها بيد ابنائها غير الحضارة التي تُهدم دولتها بيد أعدائها، وبالرغم من أن الكفار قد هدموا دولة المسلمين فلا زال الكثير من مفاهيم حضارتهم تحيا بين أظهرهم، لذلك كانت عودة دولة الإسلام أقرب لأن أثر الثقافة والحضارة الغربية المضللة قد محي أو كاد.

ولا بد للأمم والشعوب في صراعها الحضاري من استخدام أدوات معينة لإدارة هذا الصراع، فالمجتمع الذي يسيِّر حياته ومعيشته وفق مفاهيم حضارته يستخدم أهم أداة في هذا الصراع ألا وهي الدولة.

لكن استلام الحكم وإقامة الدولة لها سنن أخرى زائدة على سنن الصراع الحضاري، لأن إقامة الدولة لها عوامل أخرى لازمة، فإلى جانب الرأي العام المطلوب للحضارة الإسلامية، هناك السلطان والقوة ومن يمتلكهما. لذلك تقتضي سنن الله وأحكام الإسلام أن يكون أهل القوة والسلطان إلى جانب الفكرة الحضارية ليتم هدم أنظمة الكفر وإقامة الخلافة الإسلامية التي تحمل حضارته رسالة هدى ونور إلى العالم أجمع، وما ذلك على الله بعزيز.